قد يبدو غريباً تقسيم حياة الطفل إلى أجزاء ووصف كلّ منها على انفراد . لكننا نفعل الشيء نفسه عندما نقول إن الإنسان يصبح عاقلاً في سن السابعة ، وبالغاً في سن الثلاثة عشرة وراشداً عندما يبلغ الثمانية عشرة .
لا يتكلّم جميع الأطفال بعمر محدّد ولا تنبت أسنان الجميع في تاريخ معيّن ، لكن لتوضيح نمو الطفل من الضروري الاعتماد على نقاط ارتكاز . في كل الأحوال ، اكتساب المعرفة يأتي بالتدرّج . لن يصحو الطفل في أحد الأيّام وقد أصبح ذكياً أو يستطيع المشي بسهولة . فالذكاء يصحو يوماً بعد يوم والمشي لا يصبح قويماً إلاّ بعد أن يتعلّمه الطفل على مدى أسابيع .
جميع اطفال العالم يتخطون مراحل النمو متبعين الطريقة ذاتها . ومن الممكن ان تتأخر هذه المراحل بالظهور أو تتقدّم . بعض الأطفال يتكلّمون لدى بلوغهم السنة والنصف وآخرون بعمر السنة وثلاثة أشهر وآخرون ايضاً عند بلوغهم السنتين . هذه الاختلافات تتعلّق ، من جهة ، بالوراثة ومن جهة أخرى بتأثير المحيط .
حتى الآن أظهر لك طفلك عاطفته ، وفيما يلي سيبرهن لك عن ذكائه . سيبدأ بإظهار ذكائه من خلال أعمال يديه المرتبكتين .
في الشهر الأول من حياته لا يميّز الطفل سوى الأشياء المتحركة بقربه . إن متعته الكبرى بين الشهر والأربعة أشهر هي في النظر إلى كل شيء يحيط به . في نهاية هذه الفترة يحاول الطفل التحرّك للوصول إلى هذه الأغراض وإن بلا جدوى .
بين الأربعة والثمانية اشهر ، يستطيع أخيراً إمساك الأشياء . عندما نقرّب منه شيئاً ، يحبو نحوه فرحاً . عندما يتوصّل إلى الإمساك به فإنه يلامسه وقتاً طويلاً ثم يضعه في فمه ليمتصه . عندما يبلغ الطفل الثمانية أشهر تساعده حواسه على التعرّف إلى الاشياء من عدة زوايا : عيناه تدلاّنه على لون الشيء ، يداه تدلانه على شكله وحجمه ، فمه يعرّفه على مذاقه ، وأنفه على الرائحة التي تفوح منه . بهذه الطريقة وشيئاً فشيئاً يتعود الطفل على الأغراض التي تحيط به ويتعرّف عليها . لكن في هذه الفترة ( 4 ـ 8 أشهر ) إن لم يكن الغرض أمامه فالطفل لن يبحث عنه لأن الغرض لم يعد موجوداً بالنسبة إليه .
الفترة الممتدة بين الثمانية والاثني عشر شهراً هي فترة مهمة . في الشهر الثامن من عمره حين يبحث للمرة الأولى عن الملعقة التي وقعت منه أو اللعبة التي خبّئت عليه فهذا يعني أن باستطاعته القيام بالتحقيق التالي : كنت أملك ملعقة إنها لم تعد هنا . يجب أن تكون في مكان آخر . وترينه ينحني نحو الأرض ليفتش عن ملعقته .
يتصرّف الطفل تجاه الأشخاص كما يتصرّف إزاء الأشياء فهو يعلم أن أمّه موجودة حتى ولو أنه لا يراها . هذا ما كان يجهله في السابق . لذلك هو يبكي عندما تبتعد عنه ولذلك أيضاً يروح يبحث عن الأغراض أو الاشخاص الذين يعلم أنهم موجودون حتى عندما لا يراهم . هذه اللعبة الكلاسيكية هي برهان عن ذكاء الطفل . الذاكرة هي أيضاً برهان عن الذكاء : عندما يضع الطفل علبة ، كان يلعب بها ، على سريره ليتحدث مع أمه بلغته الخاصة وبعد أن ينتهي يتجه فجأة نحو العلبة ، ليأخذها مظهراً بذلك أنه لم ينسها .
في بعض الأحيان نرى طفلاً يرمي لعبته على الأرض فتعود أمه وتلتقطها له ، وفي كل مرة يأخذها ، يعيد رميها من جديد لكننا لا نتنبه إلى أنه في كل مرة يرميها بشكل مختلف وكأنه يحاول التأكد من قانون الجاذبية .
خلال نموّه يتصرّف الطفل بالتدرّج على طريقة ( نيوتن ) : بين سن الثمانية اشهر والسنة يكتشف قانون الجاذبية . وعلى طريقة ( ديكارت ) : إني أفكّر ، إذن أنا موجود ، بين السنتين والسنتين والنصف . ذلك هو اكتشاف الـ أنا ويتطوّر بطريقة ( نيتشيه ) أي يمتلك إرادة القدرة ، ففي عمر السنتين والنصف يريد الطفل تأكيد قدرته . من الطبيعي أن يعيد الطفل المسيرة الفكرية للإنسانية بما أنه ، هو أيضاً ، يكتشف أسرار العالم .
كشفت يد الطفل عن ذكائه ، وستقوم الآن بخدمته ، إذ إنها ستمكّنه من اكتشاف جميع الزوايا وستكون العضو الذي يجلب له المعلومات . هذا الاكتشاف وهذه المعلومات ستعلّم الطفل الكثير من الاشياء التي سيستفيد منها ليغذي معرفته ويوماً بعد يوم ينمو ذكاؤه . سيفتش عن نقاط التشابه بين الأشياء التي تحيط به ويجد العلاقة التي تربطها بعضاً ببعض . يتمكن الطفل مثلاً من أن يضع مكعباً صغيراً داخل آخر أكبر حجماً . ويتمكن حيناً آخر من إدخال عود في حلقه ، بينما كان في السابق يضع العود بالقرب من الحلقة .
في وقت لاحق ، بين السنة والنصف ـ والسنتين ، يحاول الطفل أن يلمس كل شيء . بما أنه أصبح يمشي في هذا العمر فلن تعود هناك حدود لفضوله . في كل لحظة يقوم باكتشاف جديد ، بتجربة جديدة ، ويكمل ذكاؤه وتقدّمه . بعد القيام بعدة محاولات متكررة وبعد أن يصاب بالفشل مراراً وبعد ان يستعين بالمصادفات ويقلّد من حوله ، تصبح تصرّفات الطفل متزنة ويتمكّن من إيجاد الحلول لمسائل كانت عاصية عليه من أشهر خلت . مثلاً لكي يبحث عن الكرة التي اختفت وراء المقعد ، يدور الطفل حول هذا الأخير . لبلوغ الحلوى الموضوعة على الطاولة ، يضع الكرسي بقربها ويصعد اليها .
بعد بلوغ الطفل السنتين من عمره ستقود يده ذكاءه إلى أبعد حدود . وبالإضافة إلى ذلك سيتابع إظهار ذكائه بواسطة الكلام . شيئاً فشيئاً سيتفتح ذهن الطفل ويبدأ بتمتمة الكلمات وجمعها ليؤلّف منها أقوالاً تفهم . ستبدأ عندها مرحلة جديدة من التفكير .
استعمال القدمين
ومدى تأثيره على تطور الطفل
سار طفلك في طريق النمو مستعملاً رأسه ، أما الآن فسيبدأ باستعمال رجليه : بعدما برهن الطفل على أنه ذكي سوف يظهر الآن أن باستطاعته المشي . هذه ميزة نمو الطفل ، أن يكون في البدء مفكراً ثم يظهر قدرته الجسدية ومن وقت لآخر هو عاطفي كبير . إنّ تطوّر الطفل باتجاه واحد يحدث خللاً في توازنه .
يحتاج الطفل إلى ستة أشهر كي ينتقل من مرحلة الاستناد إلى جوانب سريره ليقف ، إلى مرحلة ترك يد أمه ليمشي وحده . ستة أشهر من المجهود اليومي مع ما يرافقه من نجاح وفشل : في بعض الأيام يتقدم الطفل
بخطوات ثابتة وفي الأيام السيئة يتوصل بصعوبة إلى الوقوف على رجليه . في هذه المرحلة يضع الطفل كل قواه وتركيزه على محاولته المشي ولا يقوم بأي تقدم في المجالات الأخرى .
في عمر السنة ، حين يتفوّه الطفل بالكلمة الأولى يبدو وكأنه بدأ مرحلة الكلام جيداً ، لكن بين السنة ، والسنة والنصف يعود فيتمتم كلاماً غير واضح . كذلك في عمر السنة ينام جيداً طوال الليل . لكن عندما يبدأ بالمشي سيشكو من الإرق . يجب معرفة هذه الفكرة التي ترافق نمو الطفل : عندما يقوم الطفل بتقدم في مجال ما فهو يتراجع في المجالات الأخرى . ويجب الاطمئنان إلى كون هذا طبيعياً .
إنّ الفترة الممتدة بين عمر السنة والـ 18 شهراً هي سن المشي لدى أكثرية الأطفال ، ويصفها الإختصاصيون بالفترة الحساسة . ترافق هذه العبارة جميع أيام الطفولة وهي تعني العمر الذي يتعلم الطفل خلاله بسهولة جميع الأشياء الجديدة .
أن يتعلم الطفل المشي يعني أولاً أن يتعلم التوازن ليتمكن من التقدم . وهذا لا يتم بلا صعوبة . لا ترفعي طفلك في كل مرة يقع فيها على الأرض . المجهود الذي سيقوم به ليقف من جديد سيقوّي عضلاته . يقع فيرتكز على يديه ليقوّم وضعه ، يقف ومن ثمّ يقع . هذه طريقة صعبة التعلم لكنها ضرورية . ساعدي طفلك بأن تمتدحي جهوده وتفهمي حاجاته .
أخرجي طفلك من سريره ، وإلاّ أصبحت قضبانه كقضبان السجن بالنسبة إليه . دعيه يمشي على الأرض دون أن تغفلي عن مراقبته . عملية المشي ستحوّل طفلك من إنسان ضعيف معتمد كلياً على محيطه ، إلى إنسان متحرّك . وشيئاً فشيئاً سيصبح نشيطاً ومشغولاً للغاية ولا يتعب أبداً . وسيكون بنوع خاص ، قادراً على الإقتراب مما يستهويه بلا مساعدة من أحد ، ويصير قادراً على القيام يومياً بالعديد من الإكتشافات والتجارب .
للمشي نتيجة أخرى غير مرئية ، بفضلها سيتحقّق الطفل كونه يملك جسداً ، لأنه يقع ويصدم نفسه بالأشياء ويتألم من جراء ذلك . هذه الكدمات والرضوض هي تجارب تتردّد عشرات المرّات في اليوم الواحد ، وتشعر الطفل بألم بسيط لكنها تعلمه الكثير . في النتيجة عندما يبلغ الثمانية عشر شهراً سيدور حول الأثاث ليتجنّبه بسبب الألم الذي ذاقه منه ولم ينسه .
يقوم الطفل بعدّة إكتشافات في هذا العمر لبناء شخصيته ومن بينها تعلّم النظافة . لا يعود يبلّل ثيابه لأنه بات يفهم أن هناك أشياء جيدة وأخرى سيئة . يفهم ذلك من خلال تصرفات أمه وملامحها ، فالشيء الجيد هو الذي تقدره أمه وتفرح به أما الشيء السيّىء فهو الذي يزعجها . كذلك عندما يتعلم المشي يواجه عدّة ممنوعات ، نقول له : لا تذهب إلى هناك ، لا تلمس هذا .
وهكذا بعد إن مشى الخطوات الأولى على طريق التحرّر ، يكتشف أن هناك حدوداً لحريته .
عالم الطفل خلال السنة الأولى لا يضمّ سواه هو وأمه . العلاقة بينه وبين أبيه لا تؤثّر عليه مباشرة . لكن منذ اللحظة التي يبدا فيها الطفل بالمشي ، يتغير كل شيء : سيذهب ويأتي ، يدفع ويصطدم بكل ما يصادف طريقه ، يقترب من أبيه ليجرّه من كمّه ، يقفز إلى حضنه . الطفل الذي يمشي يفرض وجوده على المنزل ومن فيه .
الاكتشافات والتجارب الخطرة
الآن وقد بدأ طفلك يمشي فإنه لن يلجأ إلى الإستراحة بسبب الكدمات التي أصابته . هو يتمتع بحيوية مدهشة وخصوصاً بحب الإستطلاع والإقدام على تجربة كل شيء .
كان يتناول كل ما تقع عليه يده . أمّا الآن وقد أصبح باستطاعته لمس كل ما تراه عينه فإنه لن يحرم نفسه من هذه القدرة الجديدة . على العكس إنه سيفرح بذلك . يميناً ويساراً ، من الأعلى إلى الأسفل ، سيلمس كل شيء ! ولن يقف أحد في وجه طفل . يقفز فوق الكراسي والكنبات مهدّداً بالوقوع عدّة مرات ، ينزلق تحت السرير لالتقاط الكرة ، يصعد الدرج ويحاول النزول فلا يستطيع . يفتح الأبواب ، يفرغ محتويات الأدراج ، يضع السجائر في فمه ليقلّد الكبار . يفتح أنبوب الدواء أو أحمر الشفاه ، يحفّ عيدان الكبريت لتوليد نور جميل ، يحاول وضع دبوس في مأخذ الكهرباء ، يمزّق أوراق كتاب وضع على الطاولة ، يجرّ كرسيه إلى قرب الطاولة ليتمكن من الوصول إلى تفاحة حمراء وضعت عليها ، فيوقع الصحن وما فيه ويقع هو أيضاً . كل هذا يؤدي إلى صدور ضجيج وتخريب ، لكنه لا يزعج الطفل أبداً بل يعود إلى لعبه وكأن شيئاً لم يكن . هو مهتم باكتشاف العالم الذي يحيط به والأشياء التي لا يعرفها ويبدو الطفل مأخوذاً بكل شيء جديد .
بعض الأطفال يكونون أكثر هدوءاً ، والفتيات بشكل خاص . لكن ليس من الطبيعي أن يكون طفل له سنتان من العمر هادئاً وملتزماً السكون . نحدّد هنا أن الطفل ليس مخرّباً عن قصد . عندما يكسر شيئاً فلأنه لا يعرف كيف يمسكه . إنه لا يرمي شيئاً ليعبّر عن العنف . العنف لا يظهر عند الطفل سوى في مرحلة تعليمه النظافة .
ماذا يجب أن نفعل عندما يلمس الطفل كل شيء ويركض في كل اتجاه ؟ السماح له بكل شيء أو منعه عن كل شيء ؟ لا هذا ولا ذاك .
أن يمنع الطفل عن كل شيء يعني إعاقة توجّهه الأساسي نحو النمو فحركته المستمرة تطور حواسه وعضلاته وذكاءه . أما السماح له بكل شيء فيشكل خطراً عليه .
ما يجب فعله هو اعتماد نظام حرية مراقبة : ضعي طفلك في منحى عن المخاطر ( ضعي حافة للدرج وحديداً على النوافذ إلخ … ) ثم دعيه يتصرف بحرية
في مكان آمن سواء أكان هذا المكان صغيراً أم كبيراً ، دعيه يغامر فهذا يعطيه ثقة بنفسه .
المغامرة في هذه السن هي أن يقفز على الكنبة بمفرده ، وأن يفتح علبة بمفرده . ولن يذهب طفلك بعيداً من دونك لأنك تمثّلين الأمان والملجأ بالنسبة إليه . بعبارة مختصرة ، هو بحاجة إلى أن تكوني حاضرة كلما احتاج إليك ، وأن تردّي عليه كلما ناداك ، لكن شرط ألاّ تكثري من الممنوعات وألاّ تلاحقيه قائلة انتبه سوف تؤذي نفسك إن قمت بهذا … وسترين أنه سيفتش عنك في كل مرة ليتأكّد من وجودك معه وبعدما يطمئن سيعود إلى ألعابه وانشغالاته .
في بعض المراحل ستختلط عند الطفل روح المغامرة بالحاجة إلى الأمان . الأمان هو أنت . لكن تذكري أن حشرية الطفل لا تنتهي كما أنها تتغلب على خوفه مخيلته واسعة ولا يعرف معنى للخطر المذاق الغريب والروائح المزعجة لا تضايقه . اشرحي لطفلك على مرّ الأيام ، ومن دون تسرّع ، كل ما هو مسموح أو ممنوع أو خطر . ابتداءاً من عمر السنة سيتمكن الطفل من فهم الأشياء وكل يوم يفهم أكثر من اليوم السابق ، لكنه لا يستطيع التكهّن وحده بما يجب القيام به و ما يجب تفاديه . كيف تريدينه أن يعلم أنه من الطبيعي فتح علبة لرؤية ما في داخلها وأنه من الخطأ فتح منبّه ليرى من أين تأتي الدقّات ؟ إنّ شرحك بلهجة رقيقة يفهمه ويعلمه ذلك . لكن تفهّمه الأشياء ضعيف جداً أمام إرادته وفضوله .
إذا أردت ألاّ يدخل غرفة ما فاغلقيها بدلاً من أن تصرخي بوجهه . يتعلم الطفل بسرعة كيفية احترام عالم البالغين .
وفي اليوم الذي يقوم فيه بهفوة لا تؤنّبيه بشدّة غضبك سيربكه ويخيفه . إن تأنيب ولد بهذا العمر والصراخ بوجهه يجعلانه يشعر بالذنب . ما يسمّيه الأهل هفوات ، هو تصرف طبيعي أنتجه تفكير الطفل ويعتبره هذا الأخير اكتشافاً مسلياً .
المرحلة الاجتماعية
بعدما لمس الطفل كل شيء واستكشف جميع الأماكن بعدة أشهر ، تكون أمه قد تعبت وأملت الحصول على الإستراحة التي ستجدها بالفعل بعد بلوغ طفلها سن السنتين وحتى السنتين والنصف . هذه مرحلة ساكنة نسبياً فيها يجد الطفل توازنه ، ويصبح اجتماعياً يتفاهم مع محيطه بسهولة لأنه يعبّر بشكل أفضل . في الواقع ما يهمّه الآن ، هو أن يتكلم حتى يتعب ، تماماً كما كان لا يملّ من الحركة في السابق . بعدما وضع الأشخاص والأشياء كلاّ في مكانه الخاص ، يريد الآن إعطاء كل غرض اسمه ووظيفته الخاصة . لمعرفة أسماء الأغراض يشير باصبعه إلى كل منها متسائلاً وقائلاً وهذا ؟ … وهذا ؟ … وبعد أن يحصل على الجواب يردّده كالببغاء . ثم يطرح السؤال نفسه على شخص آخر ، بلا ملل ، ليتأكد من معلوماته وليسمع الكلمة الجديدة مرة أخرى . عملية الترداد هذه هي وسيلته ليتعلم .
كل شيء يفيد لتحسين لغته . يردّد أسماء الأشخاص المحيطين به ، يعدّ ألعابه وألعاب أخوته مشيراً إليها . ويذكر اسم مالك كل من هذه الألعاب . منطق الطفل يجعله يربط كل غرض بمالكه ولا يجب أن تتنقل الأغراض بين أشخاص مختلفين لا يفهم مثلاً كيف أن جدّته تنتعل حذاء أمه . يتذكر الطفل ما أكله في الصباح وظهراً وفي المساء وحتى في البارحة إذا سعفته ذاكرته . يريد معرفة مكان وجود أبيه وأخته وصديقه الذي تعوّد أن يلعب معه . يحاول ، من خلال كل ما يقول ، أن يوجّه نفسه في هذا العالم ، أن يجد مكانه ، ويفهم نفسه عندما يكون بمفرده يردّد الكلمات التي تعلمها ويحلّل كل ما قام به . هذه الحالة هي بداية حديث منفرد يدوم سنوات و حتى عمر الست أو سنوات . هكذا ، يمضي ساعات ، يتكلم خلالها وحده أو يخاطب لعبته ويحقق تقدّماً ملموساً في عوالم اللغة . ما يقوله ليس فقط كلمات جديدة تعلمها ، بل هو أسلوب جديد للتعبير بسهولة . وشيئاً فشيئاً يبتعد عن لهجة الأطفال .
اللغة هي المجال الذي يظهر الفرق واضحاً بين طفل وآخر . نرى طفلاً يعرف سبعين كلمة في سن السنتين وثلاثمئة كلمة في السنتين والنصف وقد نرى طفلاً آخر لا يعرف سوى خمسين كلمة في عمر السنتين ومائة عند بلوغه السنتين والنصف . في هاتين الحالتين ، الأطفال طبيعيون للغاية . أما الفروقات فبإمكانها الاستمرار مدى الحياة : إن أسس اللغة لدى إنسان بالغ عادي تحوي ألف وخمسمئة كلمة لدى البالغ المثقّف ثلاثة آلاف كلمة ، ولدى العالم خمسة آلاف كلمة .
من أين تأتي هذه الاختلافات ؟ أولاً من الإمكانات الفردية التي تجعل بعض الأطفال يتكلمون باكراً ، تماماً كما يمشي البعض قبل غيرهم . لكن ذلك لا
يفسّر كل شيء لأن دور المحيط الذي يعيش فيه الطفل هو أساسي . ليتكلّم الطفل بشكل طبيعي يجب أن يحاط بالعاطفة والتفهّم . يجب أيضاً أن يستمع إلى أشخاص يتكلّمون حوله ويخاطبونه ، ومن الضروري أن نردّ على أسئلته وأن نشجّع جهوده بلهجة لطيفة من دون أي تحريف للكلمات .
من الواضح أن الطفل الذي يتلقّى عناية مباشرة من أمه و يشاركها حياتها اليومية ، خصوصاً عندما تحادثه ، يتطوّر من حيث اللغة بشكل أفضل من طفل آخر في عهدة حاضنة لا يسمع منها سوى بعض العبارات القاسية أو المختصرة من النوع التالي : إشرب الحساء … إذهب إلى الحمّام … أسرع … ألا تخجل ؟ إغسل يديك ، بسرعة … لا تتحرّك … لن تحصل على الحلوى لأنك وسّخت ثيابك … وإلخ .
في دور الحضانة حيث لا أحد يكلّم الأطفال نرى هؤلاء لا يحققون أي تقدّم لغوي وينطوون على أنفسهم . ويرى علماء النفس أن هذا التأخر اللغوي الناتج عن إهمال محيطهم إياهم ، يؤدي إلى مصاعب تظهر بوضوح عندما يبدأ الطفل بتعلّم القراءة والكتابة .
عندما تشعرين بأن طفلك بلغ المرحلة الحسّاسة للغة ( أي حين يطرح الكثير من الأسئلة ويظهر اهتماماً وشغفاً حيال أجوبتك ) تكلّمي معه باستمرار وبوضوح أجيبي عن أسئلته بصبر . عندما يتعلّم الكلمات المتداولة : النوم ، الماء ، الخبز ، العطش ، إلخ .. وسّعي معلوماته اللغوية باستعمالك كلمات جديدة . فهذه الأخيرة تفتّح ذكاءه .
سيأتي وقت يحتاج فيه إلى التفكير في الكلمات كي ينمو ، تماماً كما يحتاج الجسم إلى الغذاء كي يتنشط . يطرح الطفل الأسئلة بلا توقّف ، وقد رأيت أن فضوله لا يسأم . هو متشوّق لمعرفة أسماء الأشياء كما كان متشوّقاً لرؤيتها ومن ثمّ لمسها . هذا الفضول طبيعي ولا يفتقده سوى الطفل المتأخر أو غير المكتفي . الفضول يدفع الطفل إلى السؤال ما هذا ؟ .. وهذا ؟ .. الفهم يمكّن الطفل من استيعاب الشروحات . الذاكرة تسجّل الكلمات وكل ما يرافقها من ظروف وتصرّفات وصور .
إنّ ممارسة هذا التمرين باستمرار تجعل الطفل ماهراً في تفكيره ، وتمكّنه من إيجاد الكلمات والعبارات المناسبة بسرعة أكبر ليستعملها في التعبير عمّا يجول في رأسه . يضيف الطفل ، كل يوم ، كلمة أو أكثر إلى لغته فيوسّع بذلك نطاق معرفته . هذا المخزون من الكلمات يساعد الطفل على إظهار ذكائه فيوجه اهتمامه نحو الأشياء الأكثر تعقيداً ويواجه كل جديد وكل ما هو غريب ، يحاول اكتشاف المجهول ويفاضل بين كلٍ ما يرى و بين اختباراته السابقة . ويتمكّن أخيراً من الوصول إلى النتائج .
بصورة عامة يتطوّر ذكاء الطفل بسرعة ويظهر كردة فعل طبيعية . مثلاً عندما كان بعمر السنة إذا رأى الطفل غرضاً على طاولة مرتفعة ، لم يكن باستطاعته ابتداع طريقة لتناوله . عند بلوغه السنة والنصف أصبح يجرّ كرسياً ويصعد عليه ويأخذ الغرض أو أنه يستعين بعصا لإسقاطه . إذا منع عن لمسه ، كان في الماضي يرضخ لأوامر أهله . أمّا بعد بلوغه السنة والنصف فإنه سينتظر حلول الليل أو غياب أهله للتسلّل . والحصول على الغرض المرغوب فيه . هذه العملية تظهر ذكاءه لأنه يجد الحلول بفضل تفكيره . نلفت انتباهك هنا إلى بعض الظروف التي يمر بها الطفل : في هذا العمر ، يظهر عند الأطفال ، حتى الطبيعيين جداً منهم ، خوف جديد ورعب في الليل والعتمة والمطر والمحرّكات الكهربائية وبعض الحيوانات وحتى بعض الأشخاص ، يقاوم الطفل خوفه وعدم شعوره بالأمان باتّباع عدد من العادات التي تؤمّن له الاستقرار . عند الطعام ، سيغضب مثلاً إذا وضعت لعبته بعيداً عنه أو إذا أطعمته بصحن جديد . لكنه يبدو أكثر قلقاً خصوصاً في موعد نومه ، فيراقب موضع ثيابه على الكرسي وستائر النافذة إذا تحرّكت ، والباب إذا كان مفتوحاً أو مغلقاً ،
ويريد أخيراً ألاّ تكون جميع هذه التفاصيل مختلفة بين يوم وآخر . عندما ينام الطفل وحيداً يشعر بأنه مهمل . تستطيعين أن تطمئنيه بسرد أقصوصة وأن تتركي باب غرفته مفتوحاً ليدخل منه ضوء خافت . لكن لا تضعيه في سريرك لأنه يجب أن يتعوّد شيئاً فشيئأ وجوده بمفرده في سريره الخاص . وهذه خطوة أولى ومهمة لبناء شخصيته المتفرّدة .
اكتشاف الذات
سيطراً حدث مهم بين سن السنتين والنصف والثلاث سنوات ، ممّا يسبّب اضطراباً في حياة الطفل وحياتك أنت في الوقت نفسه . أولاً اكتشف وجودك أنت أمه . ثم تنبّه إلى وجود شخص آخر بقربك يقوم بدور مهم هو الأب . سيكتشف الآن ثالثاً أي هو نفسه . هذا الاكتشاف لا يتمّ في يوم واحد بالطبع . لكن من الواضح أن الطفل في هذه السن يلاحظ ويعي أنه شخص كجميع الأشخاص المحيطين به . نستطيع القول إن الطفل عندما يبلغ الثلاث سنوات يعلم أنه صبي أو بنت ، ويميز بين الفتيان والفتيات ، كما يعلم أنه طفلك وليس طفل الجيران . يتعرّف على نفسه في المرآة ويميّز الالوان . في هذه السن يصبح الطفل واعياً قدراته الجسدية فيقول : أنا قوي ، أنا كبير … ، يعرف اسمه ويردّده ، يعلم أنه شخص مختلف عنك وعن أبيه . كلمتان تؤكدان ذلك : الـ أنا التي يستعملها والـ لاّ التي يستغلّها .
أنا تعني دوره وتدل على الذات : أنا أكلّمك أنتِ ، أنا مختلف عنك أنتِ التي تسمعينني . يقول الطفل لا لمعارضة شخص ما . أنا و لا هما تجسيد للمكان الذي يشغله طفلك في عالم البالغين .
هذه الاكتشافات تشكّل الجزء الأطول والأكثر إثارة في نفسية طفلك ، وأيضاً الأكثر صعوبة . إذ إن المراحل دقيقة للغاية والتطوّر لا يلاحظ بسهولة . كذلك الطفل لا يساعدك على تفهّم آرائه لأنه لا يتفوّه بكلمة لكي تكتشفي متى يلاحظ الطفل أنه كائن مستقل عن
الآخرين ، أي أن له جسداً . راقبي تصرّفاته أمام المرآة ، ويكف يتأمّل يديه وقدميه ، لتعرفي كيف ينظر إلى الآخرين ويثبت وجودهم في وعيه ويفرّق بينهم وبينه ذاته .
في عمر الثلاثة أشهر ، عندما يوضع الطفل أمام المرآة ، ينظر إليها نظرته إلى أي غرض آخر . عند بلوغه الأشهر الستة يرى خيالك في المرآة فيفاجأ كما لو أنه يشكَ بوجود رابط بينك وبين صورتك . إذا تكلّمت تجدين عينيه تتنقلان بين شفتيك وصورتهما في المرآة ، دون أن يفهم السبب وكأنه يتساءل : كيف يمكن أن يكون وجه أمه هنا وهناك . ذلك من دون أن يشكَ بوجود علاقة بينه وبين صورته في المرآة . في العمر نفسه يمضي الطفل ساعات بمراقبة يديه . يديرهما ، يلعب بأصابعه ، يضع يداً في الاخرى لكنه لا يفرّق بين يده ويد أمه مثلاً . يأخذ يده ويدها ويضعهما كلتيهما في فمه ولا فرق . عندما تدعو الأم طفلها باسمه يدير رأسه صوبها ، ليس لأنه عرف اسمه بل لأنه يتجه نحو صوت أمه المألوف ، والذي يجب سماعه .
مع الوقت تتطوّر علاقة طفلك بالمرآة . في عمر العشرة أشهر عندما يمدّ الطفل يده نحو المرآة ليلعب مع الطفل الذي يراه أمامه يفاجأ بملامسة الزجاج القاسي . عند بلوغه السنة ينظر إلى صورة والدته في المرآة ، يحدّق اليها جيداً ثم ينظر إلى والدته ( الحقيقية ) ويسميها ماما . هنا يكون قد خطا خطوة كبيرة إلى الأمام حين اكتشف أن الشخص نفسه يمكن أن يكون أمام المرآة وداخلها في الوقت نفسه . أمّا بالنسبة إليه هو شخصياً فلا يزال الطفل الذي يراه في المرآة غريباً عنه .
عندما يتعلّم الطفل المشي يكتشف أن له جسماً وأن ساقيه وساعديه هي خاصته . وكلما خطا خطوة واحدة تصفّق أمّه له فيعرف أنه هو المعني بالأمر ، فيعاود الكرّة ويسقط ويرتطم رأسه بالأرض . يحسّ أن جزءاً منه يتألم فيلجأ إلى حماية رأسه كلّما سقط . عندما يعضّ يده ويتألّم يعرف أن هذه اليد له ولا يعاود الكرّة . عندما ترتطم قدمه بالكرسي وتؤلمه يعرف على الفور أنه ارتطم بالكرسي أي أنه مختلف عن الكرسي . يستنتج أن الكرسي شرير ولا يعود يلمسه مجدداً . في هذه المرحلة يتعرّف الطفل إلى اسمه ويردّ عندما يناديه أحد . عند بلوغه السنة والنصف يكتشف الطفل فجأة أن هذا الطفل الموجود داخل المرآة هو هو … ، فيشعر بفرح عظيم ، ولا يعود يفارق المرآة ، ويقوم بحركات هزلية ويراقب نفسه . نلاحظ في هذه المرحلة أنه لا يزال يجد صوره الفوتوغرافية غريبة عنه . ذلك لأن هذه الصور جامدة بينما صورته في المرآة تعكس حركاته . لكنه يتعرّف إلى أهله في الصور . وهذا يؤكد قولنا بأن الطفل يعرف الآخرين قبل أن يتعرّف إلى نفسه .
بعد السنتين يكتشف الطفل أنه يستطيع التأثير على الآخرين بإضحاكهم وإزعاجهم وتسليتهم ورفض طلباتهم .
رغم أنه قد انفصل عن الآخرين ، إلاّ أنه لا يزال يتكلّم عن نفسه وكأنه غريب ، يقول : بابا يخرج مع الطفل . هو لا يدري أن الممثّل والمتفرج هما الشخص نفسه أي هو نفسه . بعد الثلاث سنوات لا يعود الطفل يهتم بالمرآة وينقل اهتماماته إلى الصور حيث يتعرّف إلى نفسه بسهولة فيشير إلى صورته ويستعمل تعبير الأنا باستمرار أما كلمة نحن فلا يردّدها الطفل قبل عمر الأربع سنوات . نحن هي الدليل على دخوله المجتمع فعندما يقول كلمة نحن ، يشرك الآخرين معه .
يتأمل في المرآة فيرى طفلاً . يمد يده ليلامس الطفل الذي يراه أمامه فيفاجأ بملامسة الزجاج القاسي . بعد أن يكتشف الطفل أن أمه يمكن أن تكون أمام المرآة وداخلها في الوقت نفسه ، يظل يحسّ ان صورته هو في المرآة ، تمثل طفلا غريباً عنه .
مشكوره قلبي