أريد أن أكتب عن هذه المغامرة المتكررة المسماة الحب، حين تحاول الروح ان تجد صورتها، وعشَّها، وسماءها، في روح أخرى، فتحوم حولها، وتعلو، وتهبط، وتتحرش، وتقيس، وتزن، وتندفع، وتهرب، ثم تحين الحظة المسكرة المؤلمة، فتنشب الروح في الروح الأخرى مشاعرها، بقوة، ولأن هناك روحين، وعالمين، وكوكبين، ومدارين، يلتحمان بعنف، يضغط كل كوكب نفسه قليلاً، ويقصّ كل كوكب من روحه ليسكن حالته الجديدة، وتطاير منه خلال الاندماج مشاعر كثيرة، وينسلخ الانفعال والحم والرغبة، ليصل الاثنان إلى حالة كائن آخر مكتمل، ليس "هو"، وليست "هي"، بل روح واحدة. هذه المغامرة العجيبة الملونة التي تتحرش فيها الروح بروح أخرى أملاً في كائن جديد واحد مخلوق من ذوب روحين، هي إحدى أكثر رحلات النفس غنىً، وثراءً، وبهجةً، ولعلها غاية الحياة ومغزاها الأخير النهائي: أن يجد الإنسان نفسه، ولا وجود لنفس الإنسان إلا بنفس أخرى. وكلما أوغلتَ في العمر أيقنتَ أن للإنسا غايةً هي الأرفع والأهم أن يجد نفسه كائناً مكتملاً بالحب. ومن دون ذلك فإن كل ما يفعله الإنسان يشبه رحلة طائر يمضي للأما زاحفاً في الصحراء بجناح واحد، يتعثّر، ويتقدّم بطء، ويتوقف، وغالباً ما يعجز عن التحليق. إذا لم يجد الإنسان نفسه في الحب فإنه لا يستطيع أن يدافع عن قضية أخرى بملء شعوره. لهذا يرتجف الرجل أمام التي تديم النظر إليه ولا يكفّ عن سؤال نفسه: أهي كوكبي؟ هل عيناها مأواي ومثواي وسماي؟ هل أولد تحت نورها؟ هل تضمني فلا تحررني؟. لا أعرف أحداً كفَّ عن السؤال طيلة حياته. تتحرّش الروح بالروح، وينزف كل طائر من عنف الاشتباك، والانخراط، والإقبال، والهروب، وتصبح الروح ساحةً تغطّيها أنوار الانفعالات، إلى أن يتعب الطائران المشتبكان، فيرتفع أحدهما فوق الآخر، يهدأ قليلاّ وهو يلعق ريشه من دماء المحبة ومن ثمن المغامرة ومن عذوبة الاندماج ومن مرارة الافتراق. لا أعرف مغامرة أكثر ثراء، لا الغربة، ولا السجن، ولا الفقر، ولا الحرب، ولا السلام، لا شيء أكثر غنىً من تحرّش الروح بالروح بحثاً عن صياغة أخرى في لهب يصهرهما، إنها المغامرة التي يستطيع الإنسان بعدها أن يعيد خلق العالم، وأن يكون مدافعاً أو مهاجماً، فارساً، أو شاعراً، محارباً أو مزارعاً، مانعاً أو مانحاً. وحين يظفر المرء بلحظة الحب فإنه يتحد مع كل شيء في الأرض، مع عناصرها، ومعادنها، وسحبها، ويصبح هذا الكائن الضئيل هو الكون كله بأمطاره، وبروقه ورعوده، ويرفع محبوبته إلى أعلى بين النور، ويشتاق إليها مرة كضوء يسري بين الكواكب، ومرة كامرأة من دم ساخن، فتهبط إليه وتطعمه من فاكهة وجودها، وهي لا تكف عن الصعود إلى السماء ولا تكفّ عن الهبوط إلى الأرض، فتعشى عيناه من نورها، ويتفتّت بدنه من نارها، ويظل ثملاً باسمها، مخموراً نشوانَ من حنانها، حتى يجرفه الشوق إلى ذاته الأولى، فينظر، ويجد أنه لم يبق من ذاته الأولى شيء سوى جراح الاشتباك الذي أفنى روحه في الروح الأخرى. صندوق الاشتباك هذا، هو أكثر الكنوز قدماً، والأكثر جدّة، يمتلىء كل يوم، ويفرغ كل يوم، من ملاين القصص، دون أن تت فيه قصة حب واحدة دامت لحظة. هذا الصندوق الذي تكتب وتمحى فيه حكايات الحب بلا نهاية هو أعزُّ ما في الوجود، ولهذا فإن عظمة الكاتب الحقيقية هي أن يكون شاعراً يحفظ للناس ويردّد وينشدُّ لهم ولو قصة واحدة من تلك القصص، ولو لحظة واحدة من تلك الحظات التي تتحرّش فيها روحان بعضهما البعض ثم تشتبكان بعنف حتى تدمي كل منهما الأخرى، وما من كاتب كبير لم يسجل ولو ومضة واحدة من برق "اكتمال الكائن" وتحليق الطائر بجناحين، وارتفاعه العظيم، العذب، والمضني، من الأرض إلى السماء. أريد أن أكتب عن ذلك النور، وأشعر أني إن فعلت، سأغدو أفضل بكثير.
أحمد الخميسي. كاتب مصري
يسلموؤوؤوؤو ع الكلام الرآآآآآآئع
وربي يعطيج ألف عافيه ع نقله
يا غلاآآآآآآآآآآآآآآآآآآتي
دمتي بخير
تقبلي طلتي
آبار