مما لا شك أن القضية قضية مهمة وحساسة خاصة للمسلين المقيمين في بلاد الغرب، وقد ورد إلى المجلس أسئلة كثيرة من الإخوة والأخوات، الذين يعيشون في تلك الديار، ويعايشون أهلها من غير المسلمين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ما موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟.
إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنين، فقال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" [الممتحنة: 8-9].
فرقت الآيتان بين المسالمين للمسلين والمحاربين لهم:
فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلاً وإحسانا.
وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: "أن تبروهم" وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين).
وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما- أنها جاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: "صلي أمك"(1).
هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنين.
حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" [المائدة: 5].
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" [الروم: 21].
وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده؟ وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم بعض: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" [البقرة: 187].
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسباً وصهراً" [الفرقان: 54].
ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة وما لها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟ وما موقفه من أقاربه من جهة أمه، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى بعض في كتاب الله" [الأنفال: 76]، وقال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" [النحل: 91].
فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق المسلم، ورحابة صدره، وفاءه لأرحامه، فإن الحقوق الأخرى توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- أبا ذر بقوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(2) هكذا قال: "خالق الناس" ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن.
كما حث النبي – صلى الله عليه وسلم- على (الرفق) في التعامل مع غير المسلمين، وحذر من (العنف) والخشونة في ذلك.
ولما دخل بعض اليهود على النبي – صلى الله عليه وسلم-، ولوا ألسنتهم بالتحية، وقالوا: (السام) عليك يا محمد، ومعنى (السام) الهلاك والموت، وسمعتهم عائشة، فقالت: وعليكم السام والعنة يا أعداء الله، فلامها النبي –صلى الله عليه وسلم- على ذلك، فقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال: "سمعت، وقلت: وعليكم"، (يعني: الموت يجري عليكم كما يجري علي) يا عائشة: "الله يحب الرفق في الأمر كله"(3).
وتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا – كما ذكر السائل- يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجاري الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: "وإذا حيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" [النساء: 86].
ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرما، وأدنى حظاً من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن المسلم هو الأوفر حظاً، والأكمل خلقاً، كما جاء في الحديث "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"(4)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(5).
ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحب إليهم المسلمين، وهذا واجب علينا، فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم بل بحسن التواصل.
وقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه حتى إنهم – لثقتهم به عليه الصلاة والسلام – كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، ترك علياً – رضي الله عنه-، وأمره برد الودائع إلى أصحابها.
فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم، أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام مثل: (الصليب) فإن الإسلام ينفي فكرة الصليب ذاتها "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" [النساء: 156].
والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما هي كلمات مجاملة تعارفها الناس.
ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي –صلى الله عليه وسلم- هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط(6) بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير.
ولا ننسى أن نذكر هنا أن بعض الفقهاء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم قد شدوا في مسألة أعياد المشركين وأهل الكتاب والمشاركة فيها، ونحن معهم في مقاومة احتفال المسلمين بأعياد المشركين وأهل الكتاب الدينية، كما نرى بعض المسلمين الغافلين يحتفلون ب (الكريسماس)، كما يحتفلون بعيد الفطر، وعيد الأضحى، وربما أكثر، وهذا ما لا يجوز، فنحن لنا أعيادنا، وهم لهم أعيادهم، ولكن لا نرى بأساً من تهنئة القوم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي حسن الصلة، ولطف المعاشرة التي يقرها العرف السليم.
أما الأعياد الوطنية والاجتماعية، مثل عيد الاستقلال، أو الوحدة، أو الطفولة، والأمومة ونحو ذلك، فليس هناك أي حرج على المسلم أن يهنئ بها، بل يشارك فيها، باعتباره مواطناً في هذه الديار على أن يجتنب المحرمات التي تقع في تلك المناسبات(7).
——————————————————————————–
(1) أخرجه البخاري (رقم: 2477، 3012، 5633، 5634)، ومسلم (رقم: 1003).
(2) أخرجه أحمد (5/153، 177)، والترمذي (رقم: 1987)، والدارمي (رقم: 2688)، والحاكم (رقم: 178) من حديث أبي ذر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصحه الحاكم. .
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 2777، ومواضع أخرى)، ومسلم (رقم: 2165) من حديث عائشة.
(4) حديث صحيح أخرجه أحمد (رقم: 2402، 10106، 10817)، وأبو داود (رقم: 4682)، والترمذي (رقم: 1162)، والدارمي (رقم: 2689) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(5) حديث صحيح أخرجه أحمد (رقم: 8952) والبخاري في "الأدب المفرد" (رقم: 273)، والبزار (رقم: 2470- كشف الأستار) والفظ له، وإسناده صحيح، وصحه ابن عبد البر في "التمهيد" (24/333).
(6) الأخبار في ذلك مستفيضة، ودلالتها صحيحة ثابتة، ساقها الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" سياقاً جيداً في موضعين (6/399 و 11/128) خالف عضو المجلس الدكتور محمد فؤاد البرازي هذا القرار بقوله: "لا أوافق على تهنئتهم في أعيادهم الدينية، أو مهاداتهم فيها".
(7) خالف عضو المجلس الدكتور محمد فؤاد البرازي هذا القرار بقوله: "لا أوافق على تهنئتهم في أعيادهم الدينية، أو مهاداتهم فيها