بقلم د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
من نعم الله علينا أن رزقنا بنين وحفدة، ومنّ علينا بالصحة والفراغ والجدة، وكان حق ذلك أن نقابل هذه النعم بالشكر والتقوى، كما نبه نبي من أنبياء الله قومه ، فقال : ( وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) سورة الشعراء / 132 – 134 ، ولم يزل أولياء الله وعباده الصالحون قوامين لله بالقسط فيما استرعاهم الله عليه من هذه الذرية؛ تربية، وتهذيباً، وإصلاحاً، كما قال الأول :
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
فحفظ الله تعالى سيرتهم تلك في كتابه، فقال عن أبينا إسماعيل، عليه السلام: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ) سورة مريم / 54 – 55 ، وبما أمر به إسماعيل أمر ابنه محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) سورة طه / 132 ، وأوصى عموم عباده المؤمنين بهذه المسؤولية العظيمة، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) سورة التحريم / 6 .
وعن عمرو بن سعيد بن العاص، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن"(1).
ومن أجَلِّ ما عني السلف الصالح بتنشئة أولادهم عليه حفظ كتاب الله تعالى.
قال الإمام البخاري: باب تعليم الصبيان القرآن، وساق فيه بسنده عن ابن عباس، رضي الله عنهما: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم"، وقوله أيضاً: "جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقيل له: وما المحكم؟ قال: "المفصل"(2).
وقد دل الحديث على فوائد منها :
1- استحباب البدء بالمفصل عند تعليم الصغار، لأنه أسهل عليهم.
2- ينبغي ألا يبلغ الصغير عشر سنين إلا وقد حفظ المفصل.
والسن التي يبدأ عندها بتعليم الصغار القرآن :
من حين يعقل ويميز؛ وذلك ببلوغه سبع سنين، وقد روى ابن أبي شيبة عن عمرو بن شعيب قال: كان الغلام إذا أفصح من بني عبد المطلب علمه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية سبعاً: ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) سورة الإسراء / 111 (3).
وروى أيضاً عن إبراهيم النخعي، قال: "كانوا يكرهون أن يعلموا أولادهم حتى يعقلوا"(4).
ولا ريب أن التربية تتطلب قدراً من الجهد والمعاناة من قبل الأبوين، على تفاوت بين الأولاد في ذلك، ومن الأسباب المعينة لهما لبلوغ الغاية المأمولة، والفرحة المنشودة ما يلي:
أولاً: القدوة الحسنة:
قال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي، إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بك؛ فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت"(5).
ولا ريب أن الطفل الذي يفتح عينيه على أبويه يتلوان القرآن، آناء الليل وأطراف النهار، سينشأ معظماً للقرآن، محباً له، مستسهلاً ثني ركبتيه في حلق التحفيظ، متشوقاً للسير على خطى والديه، كما أن رفع المثل العليا، وضرب الأمثلة بسير النبلاء والصالحين، والموفقين من أقرانه، وأترابه، حفز له على التأسي والاقتداء.
ثانياً: التعويد منذ الصغر:
عن الربيع بنت معوذ، رضي الله عنها ، قالت: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك، حتى يكون عند الإفطار" متفق عليه(6).
وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة، ثم تعودوا الخير؛ فإن الخير بالعادة"(7).
ثالثاً: السياسة الحسنة:
جاء في كلام عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: "وعلمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه"(8).
فعلى المربي الحكيم أن يلحظ نفسية الناشئ، وما يقع لها من إقبال وإدبار، وانبساط وانقباض، فيستغل حال نشاطه، ويخفف عنه حال تبرمه وفتوره، ومن ذلك: أن يتيح له ما يكفيه للترويح، والتلذذ بمباهج الطفولة، وأشواق الشباب ولا يحمله على عزائم الكبار، فإن لكل زمان لبوساً.
رابعاً: الحوافز التشجيعية:
عن أبي خبيب الكرابيسي، رحمه الله، قال: كان معنا ابن لأيوب السختياني، في الكُتّاب، فحذق الصبي، فأتينا منزلهم، فوضع له منبر، فخطب عليه، ونهبوا علينا الجوز، وأيوب قائم على الباب، يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا(9).
وقال يونس: حذق ابن لعبد الله بن الحسن، فقال عبد الله: إن فلاناً قد حذق، فقال الحسن }: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً، وصنعوا طعاماً للناس"(10).
عن النضر بن الحارث، قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بني! اطلب الحديث؛ فكلما سمعت حديثاً وحفظته، فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا"(11).
خامساً: الدعاء لهم:
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) سورة إبراهيم / 35 ، وعنه أيضاً : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ) سورة إبراهيم /40 ، وكذلك قوله : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) سورة الصافات /100 .
وقال عن زكريا عليه السلام : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) سورة مريم / 5 – 6 .
وقال عن عباد الرحمن: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) سورة الفرقان / 74 .
سادساً: انتخاب الرفقة الصالحة، وتجنيبهم رفقة السوء:
ما سمي الإنسان إنساناً، إلا لميله إلى المؤانسة والخلطة والاجتماع، فهو مدني بطبعه، كما يقال. ولما كان الأمر كذلك، كان ينبغي للمربي الحكيم أن لا يدع أمر الرفقة متروكاً للظروف، بل عليه أن يسعى جاهداً لإحاطة ولده برفقة صالحة، وبيئة نقية، يتنفس من خلالها الطهر والنقاء والسمت والأدب، وأن يجنبه رفقة السوء من البطالين والعابثين، ولعل خير وسط يترعرع فيه الناشئ حلق القرآن، في أكناف المساجد، مأوى الملائكة، ومتعلق قلوب الصالحين، قال الإمام الذهبي، رحمه الله: "قد ثبت بقول المصطفى صلوات الله عليه: أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه" يا سبحان الله! وهل محل أفضل من المسجد؟ وهل نشر العلم يقارب تعليم القرآن؟ كلا، والله! وهل طلبة خير من الصبيان الذين لم يعملوا الذنوب"(12).
الهوامش:
1- رواه أحمد (412/3) وصححه الحاكم (292/4).
2- صحيح البخاري (5035-5036).
3- مصنف ابن أبي شيبة (556/10).
4- السابق (557/5).
5- البيان والتبيين ومحاضرات الأدباء للأصفهاني (75/1).
6- البخاري (1859) مسلم (1136).
7- رواه عبد الرزاق (4742) وابن أبي شيبة (109/7) والطبراني في الكبير (236/9)، والبيهقي (84/3).
8- رواه ابن أبي الدنيا في العيال (341) وانظر أيضاً: تاريخ بغداد (187/3) والمنتظم (140/10).
9- رواه ابن أبي الدنيا في العيال (314) وفي الإشراف في منازل الأشراف (164).
10- رواه ابن أبي الدنيا في العيال (318).
11- رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (66-67).
12- سير أعلام النبلاء (396/6).
منــــــقول
جزاكى الله خيرا