في الوقت الذي تتسلط فيه القوى الظالمة على أمة الإسلام، تستغل فيها ضعفها العسكري، وتفكك لحمتها، وتفرق كلمتها، لا يزال العدو يتربص بها الدوائر، لا يقف معها عند حد، ولا يكتفي في محاربتها بخندق واحد، بل كل يوم يحفر لها خندقًا، ويفتح عليها جبهة، مرّة يصرح ويهجم، ومرة يتسلل إليها كما يتسلل اللصوص، لا يعجل على ضحيته، بل هو ذو نفس طويل، لا يعنى بالنتائج السريعة، بقدر ما يعنى بنجاح مهمته القذرة.
وإنه ليعلم يقينًا أن أمة الإسلام هي الأمة الوارثة للأرض في الدنيا، والفائزة بالجنة في الآخرة، لكن العدو يتعامل معها بكل خبث من أجل البقاء، وهو شعار الغابة وسكانها.
أما الاحتلال العسكري فهو لا يفتر عن التخطيط له، وتنفيذ ما يقدر عليه، ويتحين له الفرص، ويزرع من أجله الفتن، ويمزق من أجله أواصر الألفة بين الشعوب المسلمة، لتبقى متناحرة متنافرة، ليكون الانقضاض عليها سهلاً لا قدر الله، حتى ما ترى أحدًا منهم يغيث أحدًا، ولربما لا يسأل عنه أيضًا، حتى أُزهقت الأنفس، وانتهكت المحارم، ودُنست المساجد، ويُتم الأطفال، وسُبيت النساء، وأُذل الرجال، والله المستعان.
وليس هذا ما أريد أن أبثه إليكم، بل إن ما أريد هو ما دبّره الأعداء وما يدبرونه من كيد منظم، يرمون بسهامه المسمومة عقول المسلمين، فيشلون تفكيرهم عن قضاياهم المصيرية، ويحولون دون النهوض بأمتهم، ويشغلونهم عن خدمة أوطانهم، بالشهوات والمغريات!!
ألا تراهم كيف فتحوا في بيوتات جملة من المسلمين نوافذ موبوءة على الدعارة، يشاهدون من خلالها كل فاضح من الفعل والقول، ويرمقون بأعينهم كيف يُعبث بالأعراض، ويوقفونهم على ما ترفض القيم والأخلاق الإنسانية، فضلاً عمّا تُجمع عليه الأديان السماوية، من تحريم الفواحش الظاهرة والباطنة.
لقد تفنّن أعداؤنا في اختراع وسائل إشاعة المنكرات، حتى علّموا فئاتٍ من المسلمين كيف يقدمونها لإخوانهم، فكفوهم مؤونه الإفساد، فيالها من غيلة وخديعة، وسموها باسم الحرية، أو باسم التقدم، أو باسم الاطلاع والثقافة، أو باسم الفن، سمّها ما شئت غير أنها في النهاية تحويل للعقول البشرية إلى البهيمية أعزكم الله، فماذا بقي بعد أن تنشر الرذيلة على أنها فضيلة، وتذاع الفضائح على أنها نصائح، وتُظهر الشقاوة على أنها سعادة، والانحراف على أنه إبداعٌ واحتراف!!
والبوابة في ذلك كله: هي التي قدمت عرضها فجعلته عبثًا للعابثين، لتخرج بعد ذلك من خلال (الفيديو كليب) أو المسلسل أو الفلم بأنها الفتاة الحسناء والمعشوقة التي تتهافت عليها عقول الرجال، وفي المقابل كذلك: الرجل الوسيم الذي تلتوي له رقاب الإناث، وتسرح في جماله قلوبهن وعقولهن، ويذبن غرامًا في رشاقته ورمانسيته!! ليمثل كل منهما للآخر قصة حب مفعمة بالغرام والصدق والأمانة!! ولكن حقيقتها الخيانة لله ولرسوله.
ولك أن تعجب ممن هاموا في هذا الهراء المبثوث على شاشات الفضائيات كيف تعلقت به أحلامهم، وكيف شغفت به أفئدتهم، وكيف شغلوا به ليلهم ونهارهم، وانظر إليهم كيف شقوا به نظرًا وسمعًا وبالاً، حققوا بذلك نجاحًا كبيرًا ونصرًا مؤزرًا… ولكن لمن!! لأعداء الإسلام.
ماذا يريد أعداء الإسلام أكثر من أن تخدر العقول بإشعال فتيل الغرائز؟ ماذا يريد أعداء الفضيلة من أن تستباح الحرمات؟ ماذا يريد أعداء البشرية أكثر من أن تلهث النفوس خلف سراب المعصية وقبحها؟
الأمةُ عظيمة الشأن..أمةُ محمّد ..خير أمة أخرجت للناس.. يذوب جملة من شبابها وفتياتها، بل ورجالها ونسائها من المتزوجين والمتزوجات تحت حرارة الشهوات التي تسلطها نار الأعداء الملتهبة.. فتفرق شملهم، وتغري بعضهم ببعض، وتسقط الزوج من عيني زوجته، والزوجة من عيني زوجها، حين يلتفت كل منهما إلى أصنام المسلسلات الهابطة، وشخوصها الذين عُرف تاريخهم بالدنس والقذارة، ليجعلوهم لهم قدواتٍ ومضرب مثل.
آه ثم آه..
كيف جرأ الآباء الأحرار والأزواج الغيورون أن يشعلوا هذه النار في بيوتهم ليحرقوا بها فلذات أكبادهم بل وأهليهم؟
هل عميت البصائر!!
هل ماتت الأحاسيس؟
أين الغيرة على المحارم؟
أين الحمية على الأعراض؟
ماذا ينتظر أهل المسؤولية في البيوت؟
هل أكثر من أن تشاهد الإباحية في أكثر مواقفها إثارة وتأثيرا؟ ماذا بعد..!!
أين غيرة هؤلاء من غيرة رسول الله أو من غيرة سعد؟ فعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ:لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ! فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِرواه مسلم.
حلمَك يا سعد.. فالقضية اليوم ليست رجلاً واحدًا، إنهم رجال يا سيّدي، بألوان مختلفة، وأشكال مغرية، وتحت أضواء ساطعة، ومكياج ومكساج، يقدمون باسم الحرية كلَّ شيء، ولا يرعوون عن شيء، ولا يحرّمون شيئًا، وأبصارُ النساء تشاهد من يغرف قلوبهن، وأبصار الرجال تشاهد ما يأسر قلوبهم.
أيُّ غيرة تتحدث عنها يا رجل.. دعهم يستمتعوا ويتلذذوا!!!..
هل عندك شيء تخيفنا به؟؟
لماذا أنت هكذا تخاف علينا كثيرًا؟؟! ألا ترى أن الأمر أسهل مما تتوقع؟؟
بما تتوعدنا؟ ومن أي شيء تخاف علينا؟؟
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أ َفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الأعراف:97-99].
هم صدروا الفواحش عبر إعلامهم المنحل، وكثير منا استقبلها بالحفاوة والتكريم، يختلي بها تارة، ويجاهر بها تارة، ينفرد بها حينًا، ويجتمع عليها حيناً آخر، فمرة يخاف من جرم معصيته، ويستتر عن أعين الناس، ومرة يجاهر بهاويتبجح بجرأته عليها، ولعله يستغفر من نظراته المنحرفة، ويحوقل من سهره عليها، أو من تفريطه في منع أهله منها، وشيئًا فشيئًا حتى يألف القلب الذنب، وتستمرئ العين المنكر، وتأنس النفس بهوى الشيطان، فلا تراه بعد ذلك ينكر منكرًا ولا يعرف معروفًا، فلا تسل كيف تحل به الشقاوة، ويحيطه المحق، وتفارقه الطمأنينة، وتنزع منه الراحة بأهله وذويه، وتتسلط عليه الوساوس والشكوك، ضيّع أمانة العمر في نفسه، وضيّعها في أسرته.
نعم.. إنها نظرات.. وقنوات.. وأغنيات.. ومسلسلات، غير أنها محرمة من رب الأرض والسموات، وما حُرمّت إلا من أجل أمن أرواحنا، وسكينة بيوتنا..
أيها القارئ: أسألك بالله الذي فطرك وشق سمعك وبصرك أن تجيب في نفسك: هل أعطاك الله تعالى البصر لتبصر به الحرام؟ هل وهبك الله السمع لتسمع به الحرام؟ هل متعك بقواك لتستعملها في الحرام؟ هل رزقك الله المال لتشتري به الحرام؟ هل ميزك الله بالأمن لتعيشه في الحرام؟إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36].
والله سيسألنا الله تعالى عن كل نعمة، وعن كل نظرة، وعن كل مسؤولية تجاه أزواجنا وذرياتنا.. هل صناهم عن المنكرات والرذائل، هل حببنا إليهم الفضائل؟ هل أخذنا بأيديهم نحو أطيب الشمائل؟ أم وضعنا أيدينا في أيدي أعدائنا ونحن لا نشعر، فقادونا نحو المهالك!
فأيُّ أسى بعد الهلاك، وأي أسف بعد حلول العذاب، وأي ندم بعد وقوع المصيبة.
تلفتوا يمنة ويسرة، انظروا إلى دولٍ كانت جنانًا ومستراحًا، غير أنها انساقت وراء الفتن، واستمرأت الفواحش، وصدرت الفساد هنا وهناك، انظر كيف حلت بها النكبات، ففقدت الأمن، وصارت مأوى للخوف والجوع،وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
فكّر جيدًا.. كيف تكون لبنة في بناء السد الكبير أمام زحف الأعداء على دينك وأمتك، كن لبنة صلبة لا تؤثر فيها الشهوات والشبهات، إنك تنتمي إلى دين عظيم، ونبي كريم، وبلد طيب، أوقف كل ما يفسد عليك وعلى أسرتك حياتكم الإيمانية المعطرة بالصلاة والسجود والركوع والقرآن، أغلق كل باب للشر والفحش، طهر سمعك من سفل الغناء الماجن، وتذكر كلام رب العالمين:الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
وإنما نحن بشر، وإن من طبيعتنا الخطأ، وعلينا تجاهه الاستغفار، غير أن المصيبة حينما تتوالى المنكرات ويجاهر بها، ويقبل الناس عليها أفواجًا، ويحرق قلبك حينما لا يقفون منها موقف المتمعر أو المنكر، أو بالتناصح بينهم، بل تجد بعضهم شغوفًا بها، ويعبر عن تعلقه بها علناً، ولربما دعا غيره إليها، بل وصل الأمر ببعض المسلمين أن يسافر ويشد الرحال من أجل أن يزور مواقع الخنا والفجور التي صورت فيها مسلسلات الدنس والمعصية الظاهرة، ولا تشد الرحال -في الإسلام-إلا لثلاثة مساجد!!
فماذا سنقول عن سفينة المجتمع حينها؟!!
يجب أن نعظم التواصي بين المسلمين على الحق والصبر، وأن لا نتأخر عن ذلك، وأن نكمم أفواه المخذلين الذين يرددون كلمات الإحباط فيقولون: هلك المجتمع.. ماذا ستنفع كلماتك هذه.. لا والله إن في الناس خيرًا كثيرًا، مهما قصرنا ومهما عصينا إلا أن لنا قلوبًا تحب الله ورسوله ، حينما تشغلها الدنيا ثم تسمع نداء الحق وكلمة الحق، تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها هادية مهدية، تصيح بأعلى صوتها: سمعنا وأطعنا، عرفت بأن الله وعدها وعد الحق فلبت نداءه، وعرفت أن الشيطان وعدها وعد الباطل والزيف، فتركت طريقه، لن تنتظر أن تقف يوم القيامة موقف الفضيحة من أجل صور إباحية، أو مقاطع فاضحة، بل تريدها توبة صادقة مع الله، ومع النفس، ومع المجتمع ..
الله.. ما أحلى الرجوع إلى الله، ما أجمل أن تغار الأنفس على الدين، ما أروع أن نجدد الغيرة في النفوس وعلى الأهل وعلى الأعراض، فنصونهم من الانحراف والانزلاق في مهاوي الرذائل.
تبًا لأعداء الإسلام عشقوا الدنيا وزهرتها وتشبثوا بمجونها، لهم الدنيا ولنا الآخرة.
الآن أيها الحبيب: عُد إلى أسرتك، ضمهم إليك في حنان، وأخبرهم بأنك تحبهم، ولمحبتهم وخوفك عليهم تحول بينهم وبين الحرام أيًا كان شكله أو رسمه، فهنيئًا لك العود، والعود أحمد.
دعاء:
يا رب لطفك بعبادك المقصرين، يا رب رحمتك بعيالك المذنبين، يا رب علمت ضعفنا، وقلة حيلتنا، وليس لنا طاقة بعذابك، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إن تعذبنا فإنا عبادك، وإنك علينا لقادر، وَإِنْ تَغْفِرْ لَنا فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
المسلسلات المدبلجة .. إلى أين ؟
بتصرف
د. فيصل بن سعود الحليبي
:icon_cool:
منقوول للأمانة
وبارك الله فيك
موضوعك يستحق التقييم