فقه الشكوى
عبده قايد الذريبي
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا داهمتْك الأحزانُ والخُطُوب، وكَثُرتْ عليك المعاصي والذنوب، وعزَّ عليك المأمول والمطلوب – فانطرح بين يَدَي مولاك، وأظهر له فاقتَك وعجزك، وَاشْكُ إليه حاجتَك: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]، إلى الله، لا إلى أحد سواه سواه!
وَذُقْتَ الْأَمَرَّيْنِ حَتَّى بَكَيْـتَ *** وَضَجَّ فُؤادُكَ حَتَّى انْفَجَـرْ
وَسُدَّتْ بِوَجْهِكَ كُلُّ الدُّرُوبِ *** وَأَوْشَكْتَ تَسْقُطُ بَيْنَ الْحُفَرْ
فَيَمِّمْ إِلَى اللهِ فِي لَهْفَـــةٍ *** وَبُثَّ الشَّكَاةَ لِرَبِّ الْبَشَـرْ
فإذا فعلتَ ذلك سَمِع الله شكواك، واستجاب دعاك، كما استجاب لِمَن سبقك من الأنبياء والصحابة والأخيار؛ فهذا أيوب – عليه السلام – يشكو حاله إلى ربه، فيقول: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]؛ فسَمِع الله شكواه، واستجاب دعاه، وكشف بلواه: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84].
وهذا يونس – عليه السلام – ينادي ربه ويُنَاجِيه، ويشكو إليه حاله، فينادي ﴿ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]؛ فسمع الله شكواه، واستجاب دعاه، وكشف بلواه: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88].
وهذا نبينا – عليه الصلاة والسلام – يشكو حاله إلى ربه، فيناديه: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملكتَه أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهِك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصَلَح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنْزِل بي غضبَك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))[1].
وهذا خَبِيب بن عَدِي حينما رفعوه على خشبة الصلب اشتكى حاله إلى ربه، فقال:
وَقَدْ جَمَّعُوا أَبْنَاءَهُم وَنِسَاءَهُــم *** وَقُرِّبْتُ مِن جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنَّـــعِ
إِلَى اللهِ أَشْكُو غُرْبَتِي بَعْـدَ كُرْبَتِأي *** وَمَا أَرْصَدَ الْأَحْزَابُ بِي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا الْعَرْشِ صَبِّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي *** فَقَدْ بَضَّعُوا لَحْمِي وَقَدْ يَاسَ مَطْمَـعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَــأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَـــزَّعِ
لَعَمْرِيَ مَا أَحْفَلْ إِذَا مِتُّ مُسْلِمًـا *** عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ للهِ مَضْجَعِـــي[2]
وهذه امرأةٌ ضعيفةٌ تشكو زوجها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيسمع الله شكواها، ويحل مشكلتها بآيات تتلى إلى يوم القيامة: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1] الآيات.
وهذا الربيع بن خثيم يقول في شكواه: "اللهم أشكو إليك حاجة لا يحسن بثها إلا إليك، وأستغفر منها وأتوب إليك"[3].
إَلَى اللهِ أَشْكُو لَا إِلَى النَّاسِ إِنَّمَا *** مَكَانُ الشَّكَايَا لَا يَضُرُّ وَيَنْفَعُ
والله يحب أن يسمع عبده يشكو إليه، ويَمقُت منه أن يشكوه إلى خلقه،
قال ابن القيم: "بل أراد منه أن يستكين له، ويتضرع إليه، وهو – تعالى – يَمقُت مَن يشكوه إلى خلقه، ويحب مَن يشكو ما به إليه، وقيل لبعضهم: كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه، فقال: ربِّي يرضى ذل العبد إليه"[4].
وَقُلْتُ: يَا أَمَلِي فِي كلِّ نائبـــةٍ *** ومَن عليه لكشفِ الضرِّ أَعتَمِدُ
أَشكُو إليكَ أمورًا أنتَ تَعلَمُهــا *** مَا لِي عَلَى حملِها صبرٌ ولا جَلَدُ
وَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي بالذلِّ مبتهــلاً *** إليكَ يَا خيرَ مَن مُدَّت إليه يدُ
فَلا تردَّنَّها يا ربُّ خائبـــــةً *** فبحرُ جُودِكَ يَروِي كلَّ مَن يَرِدُ[5]
ومع شكواك لربك، فلا بد لك من التحلِّي بالصبر الجميل، وهو الذي لا شكوى معه إلى الخلق، ولا تضجر ولا تسخط، وإنما تشكو إلى الخالق الرحيم الرحمن القادر، لا إلى المخلوق الضعيف العاجز، الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا.
يقول أحد الشعراء الحكماء:
وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا *** تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ[6]
وهذا عمر يقول: "ما في الشكوى إلى الخلق إلا أن تحزنَ صديقك، وتشمِّت عدوك"[7].
وقال الأحنف:"شكوتُ إلى عمي في بطني فنهرني، ثم قال: يا بن أخي لا تشكُ إلى أحدٍ ما نزل بك، فإنما الناس رجلان، صديق تسوءه بهذه الشكوى وتؤلمه، وعدو تسره"[8].
فَكُنْ كَلَيْثِ الشَّرَى مَا بَاع هَيْبَتَهُ *** وَلَا تشكَّ إلى خلقٍ فَتَشْمتَـهَ
والشكوى لغير الله حمق وجهالة، قال ابن القيم: "الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عَرَف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم، ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقتَه وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدتَ على أن شكوتَ مَن يرحمك.
وفي ذلك قيل:
والعارف إنما يشكو إلى الله وحده وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس"[9].
وقال شيخ الإسلام: "وكل مَن علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو أن يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك"[10].
متَى تؤمِّل مخلوقاً وتقصـــدُه *** إن كان عندكَ بالرحمنِ إيمــانُ
ثِقْ بالذي هو يُعطِي ذَا ويَمنَعُ ذا *** في كلِّ يومٍ له في خلقِه شــانُ[11]
ومع هذا كله فلا مانع من أن تبثَّ شكواك، وتبوح بحاجتك إلى أصحاب المروءات، وذلك في الأمور الدنيوية المقدور عليها.
مع حسنِ توكلك، وقوة اعتمادك على خالقك ومولاك!
وأحيانًا قد لا يجد الإنسان حلاًّ إلى أن يبوحَ بشكواه إلى أهل الخبرة والاختصاص.
قال أحد الشعراء:
وفقنا الله وإياك لطاعته، وأبعدنا الله وإياك عن معصيته.
مما راق لى
——————————-
[1] رواه الطبراني في المعجم الكبير (13/73)، وحسنه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (7/267).
[2] انظر: المعجم الكبير للطبراني (5/259)، ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/507).
[3] صفة الصفوة لابن الجوزي (2/39).
[4] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين؛ ابن القيم، (36).
[5] موارد الظمآن؛ عبد العزيز السلمان (2/91- 92).
[6] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب؛ السفَّاريني (1/456).
[7] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء؛ الأصفهاني (524).
[8] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ ابن خلكان (2/505).
[9] الفوائد، ابن القيم، ص (87).
[10] العبودية، ابن تيمية، ص (87).
[11] الآداب الشرعية والمنح المرعية، ابن مفلح (3/280).
[12] نظم العقيان في أعيان الأعيان، السيوطي، (67).
[13] الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، أبو الفرج النهرواني، ص (555).
بارك اله فيكم ونفع بنا وبكم
ورزقنا وإياكم حسن الخاتمة
———————
أكثر من قول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، فكما تعلم فإنّها تثقل الميزان، ومدعاة لمحبة الرحمن.
أكثر من الاستغفار: فإنَّه يطهر القلب والجنان، ومدعاة لتكفير الذنوب والآثام.
أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فإنها من أعظم أسباب تنزل الرحمات، وبها تستجلب محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم وشفاعته يوم المعاد، وترفع بها الدرجات، وتقضى الحاجات.
اصنع هذا ولسان حالك كأنه يقول:
وكيف أشغل قلبي عن محبتكم***بغير ذكركم يا كل أشغالي