كان هدف الأم أن تجعل ابنتها تطيع كلامها وتكف عن البكاء، ولكن هيهات فصوتها أخذ يعلو ويعلو فما كان من الأم إلا أن هددتها بأنها ستأتي لها بالعصفورة، سألت والدتها ما قصة العصفورة فالمفروض أنها "حاجة كويسة بتصوصو" نحكيها في قصص الأطفال، فردت قائلة: "عصفورة" بالنسبة لابنتي "مليكة" هو الشيء الذي تخاف منه بشدة.. هكذا عودتها منذ صغرها!.
من "أمنا الغولة" إلى "العو"
أما عن "أمنا الغولة" فحدث ولا حرج، فهي هذا الشكل الضخم الأسود بلا ملامح محددة ولكنها تحمل بين طيات اسمها كل أشكال الرعب المتبقية في ذاكرتنا منذ الصغر.. فـأمنا الغولة هي ثقافة الخوف المنتشرة في شتى بقاع على الأقل "مصر": هاتنام ولا أجيبلك أمنا الغولة.. هاتاكل ولا أنادي للغولة.. هاتسمع الكلام ولا أوشوش أمنا الغولة تيجي تاكلك.. وهناك أيضا "العفريت".. و"الفار".. و"البورص".. و"البعبع".. و"العو"..، فالآباء والأمهات لا يعجز خيالهم ولا يكف عن اختراع كل جديد ليخيفوا به أطفالهم الصغار حتى يسمعوا الكلام ويطيعوه.. ليس عن رضا وتفاهم، ولكن عن خوف ورعب وفوبيا أحياناً، ومن أشهر أنواع الفوبيا التي يصيب بها الآباء أبنائهم.. "فوبيا الظلام"، فالحالات ممن أصيبوا بها حتى بعدما كبروا وارتادوا الجامعات المرموقة كثيرة، لأن آبائهم كانوا يصورون لهم وهم صغار أن "الظلام" وحش يخرج منه كل الأشكال المرعبة وغير محددة الهيئة.. فتجد أحد الآباء يقول لطفله: "بص بص كويس كده في الظلمة شايف العفريت اللي جاي هناك ده.. شايف عامل ايده ازاي عايز ياخدك ويمشي.. يانهار أبيض.. يلا غمض عينيك ونام بسرعة".. وما يكون من الطفل الصغير إلا أن يرتمي في حضن الوسادة خائفا مذعورا مغمضا عينيه التي لا تكف عن رؤية هذا "العفريت" الآتي من الظلام، ويترك الأمر تأثيره حتى الكبر، فهذه الفتاة التي بلغت من العمر الآن 25 عاما مازالت تتخيل أن هناك شيئا ما أسفل سريره، وعليه فلابد قبل أن تأوي للفراش يوميا أن ترفع الملاءة المدلاة وتنظر أسفل السرير لتتأكد من أنه لا يوجد أحد أو شيء أو حتى "عفريت" أسفل السرير!.
للخوف فوائد.. ولكن
ولكن هل من المفيد بالفعل أن نخيف الأطفال الصغار؟.. هل لابد أن يخترع كل أبوين شيئا ما مرعبا ليخيفوا به صغارهم ليطيعوا الأوامر حتى غير المقنع منها؟، ويأووا إلى الفراش باكرا، ويكونوا هادئين، ويأكلوا طعامهم كله وإن كانوا حتى غير جوعى؟، وأن يكفوا عن الصراخ حتى وإن كان كل ما يحتاجونه هو حضن صغير من أبويهم ليهدأوا؟. تقول أميرة بدران المستشارة الاجتماعية والأخصائية النفسية: الخوف فطرة داخل كل إنسان، غرسه الله فينا من أجل الحفاظ على أرواحنا وأجسادنا من الأذى، لذا نجد أنه كلما كان الطفل أكثر وعيا كلما كان خوفه الفطري أعلى بشكل غير إرادي، بمعنى أن الطفل ذو السنة الواحدة عندما يمشي فمن الممكن ألا يأخذ بباله من خطورة قفزه من مكان عال أو نزوله على السلم أو المرور في الشارع، ولكنه كلما كبر أصبح يميز الأحداث والمواقف التي تسبب له الخطر فيخاف منها تلقائيا، هذا هو الخوف الطبيعي التلقائي الذي يحذر من خطر واقعي، أما بالنسبة للتخويف الزائد عن الحد من شيء وهمي فإنه قد يصل بنا إلى الحد المرضي – كما توضح المستشارة- فنجعل أطفالنا غير قادرين على ممارسة حياتهم وأدوارهم الطبيعية المطلوبه منهم، ومن الممكن بالطبع أن يتسبب ذلك في أنواع من الفوبيات التي ترتبط بذهنهم منذ الصغر أو ترتبط بمشاهدة حدث ضخم في وقت من أوقات حياتهم، ومن هنا فإن التخويف أمر مرفوض بالطبع لأنه يزعزع "الأمان" لدى الطفل، وهو من أهم الاحتياجات النفسية له حتى ينمو نفسيا بشكل صحيح، وتخويف الأبناء غير مقبول تحت أي ظرف من الظروف، ولكن يجب التعامل مع الأمور التي قد تؤذيهم بطرق تربوية سليمة تتناسب مع أعمارهم وإدراكهم وتتضمن جزءا من "التجربة والخطأ" كطريقة من طرق التعلم، دون الاعتماد طوال الوقت على التحدث عن منهج "افعل ولا تفعل" لنجعلهم يبعدون عن شيء من الأشياء.
الترغيب قبل الترهيب
ومن جهتها تقول وفاء أبو موسى -الأخصائية النفسية والمستشارة التربوية-: أن التربية الإيجابية تحد من استخدام التخويف في تعليم الأطفال، فالترهيب يقيد شخصية الطفل ويجعلها تنشأ على الخوف، وأسلوب الترهيب في التربية أسلوب سلبي له مخاطر كثيرة ومتعددة على كافة جوانب شخصية الطفل، فمثلا على الجانب العقلي، فإنه يطور خيال الطفل نحو الأشياء المزعجة بدلا من أن ينمو ويتطور بالاكتشافات العلمية والحياتية المبدعة، فالترهيب يؤذي إبداع الطفل ويحجمه، أما على الجانب النفسي، فالترهيب يغرس في نفس الطفل الجبن والاستسلام والاعتمادية، عكس التربية الإيجابية التي تدفع به نحو الشجاعة والإقدام وحسن البصيرة والإبداع، وتستطرد أبو موسى قائلة: تخويف الطفل بالظلام وباللصوص وبالموت وبالنار وبالغولة من الأشياء المرفوضة تربويا لها ضررها على نفس الطفل، والتخويف من الأساس مرفوض كمبدأ في التربية، وبدلا منه نستخدم الترغيب، فالأسلوب السليم أن نغرس في طفلنا الشجاعة، وإن كنا نريد ردعه عن شيء سيء علينا توضيح مخاطره، وإن أصر الطفل علينا أن يتملكنا الحزم… والحزم لا يعني القسوة، بل حرمان الطفل مما يريد نهائيا دون تراجع لأن ما يريده يضر بذاته، فالتربية الحديثة كما تقول أبو موسى تدفع الوالدين إلى استخدام أساليب المدح بدلاً من الذم، وأساليب التشجيع بدلا من الترهيب، وهي أساليب ناجحة ومفيدة لمستقبل شخصية الطف
الله المستعان