أختبارات وأتجهات طبية جديدة لفهم أسباب مرض التوحد
تقترح نتائج تجارب مختبرية أولية وضع عدد من الأهداف الصالحة للتدخل العلاجي، لعلاج مرض التوحد. ففي الندوة السنوية لكونسرتيوم التوحد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 ـ وهو ائتلاف للباحثين في 14 مؤسسة في مدينة بوسطن ـ تداول عدد من الباحثين حول التقدم الحاصل في وسيلة واعدة جديدة للأبحاث الأساسية، توظيف الاضطرابات النادرة التي يتسبب في حدوثها جين منفرد، في أغراض فهم الأسس الدماغية المرتبطة بحدوث اضطرابات طيف التوحد.
ورغم أن الأبحاث لا تزال أولية، فإنها تفترض ـ لدى الفئران وذباب الفاكهة على الأقل ـ أن من الممكن قلب وعكس الشذوذ الجزيئي الذي تسببه تشوهات جينية معينة، وبالنتيجة تخفيف، بل وحتى إزالة، الأعراض الخاصة بالاضطراب.
وبالطبع فإن الانتقال من الفأر أو ذبابة الفاكهة إلى الإنسان، قفزة كبرى (إذ نعرف أن العلماء يشفون السرطان لدى الفئران على مدى عقود من السنين)، ومع هذا فإن النتائج حول الاضطرابات الناجمة عن تأثير جين منفرد single ـ gene disorders، قد أدت إلى ظهور توجهات جديدة في أفكار الباحثين الذين يدرسون اضطرابات طيف التوحد autism spectrum disorders.
اضطرابات نادرة «مناسبة»
وإجمالا، فإن الاضطرابات الناجمة عن جين منفرد، لا تشكل سوى 10 إلى 15 في المائة من اضطرابات طيف التوحد، إلا أنه من السهل دراسة التأثيرات البيولوجية لجين منفرد مقارنة بدراسة تأثيرات الكثير من الجينات.
ولهذا السبب، يستخدم الباحثون في البيولوجيا الجزيئية هذه الاضطرابات النادرة بهدف فهم الأسباب التي تقود إلى صعوبة التواصل، وإعاقة النمو، والأعراض الأخرى المصاحبة لاضطرابات طيف التوحد.
– متلازمة ريت Rett syndrome: هي أحد الاضطرابات التي تنجم عن تشوه في الجين «إم إي سي بي 2» MECP2، ويقود هذا الاضطراب إلى مشاكل بدنية وعقلية تظهر لأول مرة بين الأعمار من 6 إلى 18 شهرا.
ويعاني كل المصابين بمتلازمة ريت من أعراض اضطرابات طيف التوحد، مثل إعاقة النمو، كما قد تؤدي متلازمة ريت إلى ظهور الرعشات، ومشاكل في التنفس.
وفي عام 2024 نشر باحثون في جامعة أدنبرة دراسة حول نجاحهم في قلب وعكس الأعراض لدى الفئران.
فقد قاموا أولا بـ«إسكات» جين «إم إي سي بي 2» لكي يطوروا سلالة من الفئران تظهر لديها أعراض عصبية مماثلة للناس المصابين بمتلازمة ريت.
وعندما وصلت الفئران مرحلة البلوغ، استخدم الباحثون دواء لإعادة تنشيط وظيفة جين «إم إي سي بي 2». وبعد هذا العلاج الدوائي، خفت الأعراض لدى الفئران وبدت طبيعية.
– اضطراب Tuberous sclerosis complex: الذي ينجم عن تشوهات في جين «تي إس سي 1» TSC1 أو جين «تي إس سي 2» TSC2.
ومن خصائصه ظهور الأورام في الدماغ والعينين خصوصا، التخلف العقلي، الصرع، ومشاكل أخرى، وتظهر لدى 25 إلى 60 في المائة من المصابين بهذا المرض أعراض اضطرابات طيف التوحد.
وتعرف الرموز التي يحملها كل من الجينين «تي إس سي 1» و«تي إس سي 2» بأنها رموز التنظيم السلبي التي تقوم بإخماد نشاط البروتينات الأخرى.
ويقوم بروتين منها خصوصا يسمى MTOR بنشاط قوي جدا، مما يؤدي إلى التداخل مع وظيفة الدماغ الاعتيادية.
وفي عام 2024 وظف الباحثون دواء «راباميسين» rapamycin («سيروليماس» Sirolimus)، المستخدم لتثبيط جهاز المناعة ومنع الجسم من رفض الأعضاء المزروعة، لأغراض إخماد عمل MTOR في فئران تمت هندستها جينيا لكي تكون مصابة باضطراب Tuberous sclerosis complex.
وبعد العلاج بدواء «راباميسين» أظهرت الفئران قدرة أكبر على التعلم والذاكرة، وأظهر البحث من الناحية المبدئية أن الدواء بمقدوره قلب وعكس بعض أعراض التشوهات الجينية ـ حتى مع بقاء تلك التشوهات.
– «متلازمة إكس الهش» Fragile X syndrome: هذا الاضطراب الناجم عن تشوهات في جين «إف إم آر1» FMR1 يؤدي إلى التخلف العقلي، الصرع، ومشاكل أخرى، وتظهر لدى 15 إلى 30 في المائة من المصابين به أعراض اضطرابات طيف التوحد.
في عام 2024 اختبر باحثون في كلية ألبرت أينشتاين للطب، الليثيوم وعددا من مثبطات الناقل العصبي «الغلوتاميت»، في ذباب الفاكهة المصاب بمتلازمة إكس الهش، وفي البداية أوقف العلماء نشاط جين «إف إم آر1» في الذباب لكي يحفزوا على ظهور مشاكل التعلم والذاكرة ـ التي ظهرت على سلوك الذباب.
ثم شرعوا باختبار مختلف مثبطات الغلوتاميت، خلال مرحلة الشرنقة أو بعد أن وصل الذباب مرحلة البلوغ، وعندما أعطيت مثبطات الغلوتاميت أثناء مرحلة النمو فإنها أدت إلى انحسار مشاكل التعلم والذاكرة، كما أنها قللت من المشاكل عند إعطائها بعد البلوغ.
وفي عام 2024 وظف باحثون في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا منطلقا مختلفا لعكس وقلب اضطراب إكس الهش لدى الفئران، فقد استولدوا سلالة من الفئران «ذات التشوهات المزدوجة» كانت تحمل عيوب جين «إف إم آر1» إضافة إلى تشوهات أدت إلى تعطيل نشاط مادة كيميائية في الدماغ تسمى PAK.
وكان سلوك الفئران المزدوجة التشوهات، قريبا من السلوك العادي، وهو الأمر الذي يظهر ـ من حيث المبدأ ـ بأن PAK يمكن أن تعتبر هدفا علاجيا.
توجهات المستقبل
إن هذه الأبحاث العلمية الأساسية، على الرغم من أن نتائجها واعدة، فـإنها لا تزال فـــي مراحلهـــا المبكرة، والتحدي الأكبر يكمن خصوصا فــي إيجاد وسيلة آمنة للوصول إلى الهدف، لكي يمكن توظيفها في إجراء العلاج الجيني.
إلا أن الأبحاث على الاضطرابات الناشئة عن وجود جين منفرد قد قدمت للباحثين طرقا جديدة لتقييم الأساس الجزيئي لاضطرابات طيف التوحد.
ويبدو أيضا، ولأول مرة، أن من الممكن ـ في يوم ما ـ أن يتوصل الباحثون إلى علاج لإزالة التأثيرات المدمرة لهذه الاضطرابات العصبية المؤثرة على النمو.
دمتم فى حفظ الله