ولكن .. هل الشدة سيئة على الدوام.. أم هل لها وجه مشرق؟
الوجه الثاني للشدة
لاشك أن الشدة يمكن أو تؤذي صاحبها، خاصة عندما يستجيب لها بثورة من الغضب أو نوبة من الإحباط النفسي، أو عندما ينغمس بإحدى
العادات السيئة
(كمعاقرة الخمر) بسببها.. لكن للشدة مكاسب صحية هامة كذلك في بعض الحالات، كما تقول الدكتورة جانيت دي بيترو من جامعة جونز هوبكنز – إذ أنه ثبت أن أداء معظم الناس يصبح على أحسنه عندما يكونون تحت وطأة درجات خفيفة أو متوسطة من الشدة.
لقد تطورت ردود فعل البشر الهرمونية تجاه الأخطار، وتجاه التغيرات السريعة، وتجاه الحالات التي تتطلب قرارات هامة صعبة، تطورت عبر التاريخ لتساعد الإنسان على الحفاظ على حياته وعائلته وممتلكاته – وما زال بإمكانها اليوم أن تفعل الشيء نفسه – إن أحسن الإنسان التصرف.
فبإمكان الشدة أن تقوي قدراتنا الذهنية والجسمية لمعالجة الصعاب على المدى القصير، كما بإمكانها أن تشحذ مقاومتنا ومدى تحملنا لها على المدى الطويل.
وحتى عندما تكون الشدة من درجة عالية فقد تحمل فوائد صحية لا يستهان بها لبعض الناس، كما تقول الدكتورة جوديف أورلوف أخصائية الأمراض النفسية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، مما دعاها لمطالبة المراكز الصحية بإنجاز المزيد من البحوث المتوازنة حول فوائد الشدة الصحية، وكيفية استغلالها لمصلحة الإنسان.
الشدة هي ملح الحياة
ولعل أول من لفت انتباه العلماء إلى فوائد الشدة كان الدكتور هانز سيلي في الثلاثينات من القرن الماضي الذي لقب الشدة بـ(ملح الحياة) لا تقوم بدونه .. فالتغيرات والتحديات في الحياة لا بد منها، والشدة هي التي تمكننا من التصدي لهذه التبدلات والتخطيط للتحكم فيها.
فعندما عرّض الدكتور سيلي فئران المخبر لأنواع مختلفة من الشدة كضربهم بالعصي أو اطلاق القطط لمطارتهم تشكلت التقرحات الهضمية لدى الفئران وتضخمت غدد الكظر لديهم، وعرف فيما بعد أن ذلك كان بسبب ارتفاع الهرمونات الكظرية (الأدرينالين ثم الكورتيزون) التي تسبب تقرحات الشدة المعروفة.. هذه الهرمونات هي التي كانت تدفع الفئران لإيجاد ملجأ من الخطر المحدق بها والفرار لإنقاذ حياتها .. وهي عماد ما نسميه اليوم (استجابة الشدة) التي نراها في أي شخص يتعرض لصعوبات سوق السيارة في طريق مزدحم مثلاً، أو وجود منافس قوي في العمل، أو حتى في المناسبات المفاجئة السعيدة.. في هذه الأحوال تقوى ذاكرتنا ويتركز انتباهنا ونحن نفكر في أفضل سبيل للاستجابة للتغير المفاجىء في حياتنا.
ولكن .. متى تصبح الشدة مؤذية
عندما لا نستطيع (إطفاء الزر) بعد انطلاق هرمونات الشدة التي قدحت زنادها أزمة حياتية.. عندها نظهر الآثار السلبية للشدة، فالنهايات العصبية تنهك وتتوقف عن التواصل، والمادة السنجابية المسؤولة عن الذاكرة والتعلم في فص الدماغ الأمامي تنكمش، والهرمونات العالية التركيز تعمل عملها المخرب في الجهاز الهضمي وغيره.
لهذا ربط مفهوم الشدة المزمنة بالاكتئاب وضعف الذاكرة، وحتى مرض ألزهايمر..
هل كلنا معرضون لآثار الشدة بنفس الدرجة؟
الجواب حتماً لا ..
ففي دراسة للدكتور سالفاتور مدي من جامعة كاليفورنيا لحوالي 400 موظف في شركة كبيرة تعرضت للإفلاس، وجد أن معظم موظفي الشركة عانوا الأمرين صحياً من تحطم معنوياتهم، إذ ازدادت لديهم نسب البدانة والسكتات القلبية والدماغية، لكن حوالي ثلثهم بقي محافظاً على صحة ونشاطه وأبقى على عمله أو وجد عملاً بديلاً تأقلم فيه بسرعة.
ووجد أن هؤلاء الذين لم يتأثروا سلبياً بالضائقة المالية كانوا يشتركون فيما بينهم بتاريخ أسري صعب.. فمعظمهم تعرض في طفولته لأزمات صعبة، من قبيل التنقل بين بيئات مختلفة بسبب مهنة الأب، أو بسبب مرض أحد الأبوين أو كونه كحولياً.. الخ..
ومعظمهم تخطى هذه الصعوبات وكان موضع الأمل والثقة من أحد الوالدين أو كلاهما.
بمعنى أن الشدة التي تعرض لها هؤلاء في الصغر أعطتهم مناعة وحصانة ضد تأثيرات الشدة السلبية عندما صاروا بالغين مسؤولين.
وهناك من هؤلاء من درّب نفسه على اتخاذ مواقف هجومية (ساخرة أو مغطاة) إذا ما اعترته أية مسببات للشدة النفسية.
كل هذا يدل أن الباحثين الذين وجدوا أن هناك وجهين (قبيحاً ومفيداً) للشدة، لا يستطيعون حتى اليوم توقع ردود فعل كل إنسان على حدة عندما يتعرض لأزمة نفسية، ولا التعرف على النقطة التي يتبدل فيها تأثير الشدة لديه من إيجابي إلى سلبي.. إلا أن هناك اتفاقاً مبدئياً على أن لتجربة الطفولة والتربية في الصغر دوراً هاماً في تحديد سلوك الإنسان تجاه الشدة في الكبر، وأن طريقة تدريب الطفل على مواجهة الصعوبات بذكاء سيؤتي ثماره عندما يتعرض للشدة وهو في سن البلوغ.
هل هناك عوامل أخرى تحدد سلوكنا تجاه الشدة!
بالتأكيد.. فلا بد أن العوامل الوراثية تلعب دوراً هاماً في هذا المجال، ولو أن الباحثين بدؤوا يحللون دور الجينات الموروثة منذ فترة محدودة وحسب.
ثم هناك عامل الجنس، فردود فعل الرجال تجاه الشدة ومعظمهم يحاول أن ينزوي عن الناس ويعالج مشاكله بنفسه، يختلف عن ردود فعل النساء اللاتي يلجأن عادة لصديقاتهن وقريباتهن للمساعدة في المحنات الهامة، مما يكبت الاستجابة الهرمونية المديدة المؤذية.
وأخيراً هناك وقع تعرض الأم الحامل للأزمات الصعبة على جنينها في الرحم، ففي عاصفة الجليد التي اجتاحت ولاية كويبيك بكندا عام 1998، والتي نتج عنها انقطاع الكهرباء أكثر من شهر، تبين مثلاً أن الأطفال الذين ولدوا لأمهات تأثرن بتلك العاصفة كان معيار الذكاء لديهم (IQ)، كما كانت قدراتهم على تعلم اللغة أقل وسيطاً من أطفال الولايات الكندية التي لم تتعرض لمثل هذه العاصفة.
ولكن – وبالمقابل – ثبت للدكتورة ديبيترو في جامعة جونز هوبكنز أن درجات ضئيلة من الشدة .. تتعرض لها الحامل هي نافعة – بل ضرورية – لتطور وتكامل الجهاز العصبي في الجنين.
هل يمكننا تحسين تكيّفنا مع الشدة وجعلها تعمل لصالحنا؟
هذا هو السؤال الذي يشغل بال العلماء حالياً، ويبدو أن الجواب عليه هو بالإيجاب، فالرهبان البوذيون مثلاً استطاعوا أن يدربوا أنفسهم بالتأمل سنوات طويلة، حتى صارت مراكز التعلم والسعادة في أدمغتهم ناشطة أكثر من المعدل، وقد برهن الدكتور ساكي سانتوريللي من جامعة ماساتشوستس أن التأمل لا يساعدهم في التأقلم مع الشدة وحسب، وإنما يصلح الأذى الذي لحق بالدماغ من جرائها كذلك.
وبينما لا يستطيع أكثرنا العيش كما يعيش الرهبان البوذيون ولا يملك أغلبنا الوقت لرياضة التأمل الطويل، فهناك وسائل لتحسين سلوكنا وتعلم الطرق الناجعة للتكيف مع الشدة.
من هذه الطرق التصدي فقط للأزمات التي نعلم أننا سنربح الجولة معها وترك غيرها.. اسأل نفسك عندما تواجهك مشكلة عويصة: هل الأمر هام فعلاً بالنسبة لي؟.. هل يستحق مني أن أثور أو أن أقاوم؟ هل أستطيع القيام بأي شيء فعال لتغييره؟.. وهناك اليوم برامج في بلاد الغرب لتدريب الراغبين في تحسين طرق معالجتهم للشدة.. ومن هذه الطرق أداء التمارين الرياضية كلما شعرنا أننا تحت ضغط كبير وأن معيشتنا في خطر.
ولكن لنتذكر أن ما يصلح لأحدنا في إدارة الشدة وتجنب آثارها السيئة قد لا يصلح للآخر.. وأنه مهما كانت الوسيلة المتبعة، فلا بد لأحدنا أن يشعر أنه في كامل السيطرة على زمام الأمور وأن يعالج أسباب الشدة بدراية وحكمة تناسب وضعه وظروفه، وإلا أنقلبت الوسائل العلاجية لمسببات جديدة للشدة تؤرق باله!
مـــوضـــوع رائع
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أغلي حبيبه1761341
مــــشــــكــــورهـــ غلاااااااااتي
مـــوضـــوع رائع |