أستغرب كثيرا عندما أسمعهم يقولون عش الزوجية أو القفص الذهبي، وأقول في نفسي ما أبشع الزواج إن كان سيحبسني في قفص، بما تحويه كلمة قفص من كبت للحرية وتحجيم للأفق…
وبعد البحث والتحري، اكتشفت أن هذه الكلمة دخيلة على ثقافتنا، ومستوردة من جيراننا الأوروبيين، ولست أستنكر هذا الاقتراض الثقافي بيننا وبينهم، فهو طبيعي بين كل متجاورين، إلا أنني أشمئز من حياتهم الاجتماعية كثيرا، وأحس بأنها حياة بلا روح، باردة كحجارة القبور، موحشة كجبال الجليد، لذا فأنا أصر الآن على إخراج هذا التعبير المستورد من بين أظهرنا ورده من حيث جاء لأنه لا ينتمي إلى ثقافتنا وحياتنا.
لا نعرف بالتحديد الأثر الذي تلعبه مثل هذه الكلمات في بناء شخصياتنا، وإن كنا نحس به دون شك، فهي تغرس نفسها في عقلنا الباطن، وتعشش هناك، وتبيض مجموعة من الأفكار والأحاسيس، وتولد في تصرفاتنا مجموعة من ردود الأفعال التي لا ندرك أسبابها، بحيث تجعلنا نصدر مجموعة أحاسيس غير مبررة.
إن الإسلام قد انتبه إلى هذه الآثار اللفظية التي لا نلقي لها بالا، فآية كريمة تتلى آناء الليل والنهار، نزلت لتقول لنا لا تقولوا هذه الكلمة وقولوا تلك، مع أنهما في الظاهر نفس المعنى، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة: 104]، وعلماء النفس يدركون الآن أبعاد الكلام السلبي وآثاره النفسية على الفرد وعلى من حوله، ويقررون بأن الكلمة السلبية تؤثر على قائلها وعلى سامعها.
هذه الكلمة الدخيلة تصور الحياة الزوجية صورة مؤلمة، وتجعل بيت الزوجية عشا صغيرا أو قفصا محكم الإقفال، وتعطيه أبعادا مكانية ضيقة، وتجعل الزوجين فيه عصفورين ضعيفين، وهذه المعاني فيها شيء من المشابهة بواقع ما هم عليه في حياتهم المادية المقيتة.
إن تشبيه الزوجين بالعصفورين وتشبيه الزواج بالقفص يتناسب مع الأبعاد الاجتماعية للزواج الأوروبي، فتوقيع وثيقة الزواج عندهم، يجعل الحياة أبدية بين الزوجين، فليس للزوج أن يطلق زوجته، ولا أن يتزوج عليها غيرها، إنه اختيار مصيري لا يمكن التراجع فيه، والزوجة فيه محيطة بالزوج من كل جانب، فلا يباح له في شريعتهم أن يفكر في الزواج بأخرى، حتى ولو بلغت زوجته من الكبر عتيا، فهو في قفص منذ أن عقد على قعيدته لا يمكنه أن يخرج منه حتى تموت أو يموت، وإنما جعلوه ذهبيا تزيينا له، وإلا فإن القفص قفص ولو كان من ذهب ورصع بالزبرجد والياقوت.
أما نحن ولله الحمد، فشريعتنا لا قفص فيها ولا أبواب، فباستثناء من حرم الله عز وجل من المحارم أحل لنا أن نختار ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع، إلا من خاف من نفسه عدم العدل، وخشي أن يظلم، فإنه لا يباح له أن يختار مما طاب من النساء، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 3]، ولست في حاجة إلى أن أبين معنى قوله تعالى (ما طاب) فهي كلمة تدل على نفسها بنفسها، وتعبر عن مرادها بلفظها، ويفهمها كل حسب حاجاته وظروفه ومقاييسه، فقد تطيب امرأة لرجل ولا تطيب لغيره، ثم قال: (مثنى وثلاث ورباع) وأتى بالشرط الذي يجب تحقيقه قبل أي خطوة في هذه الطريق: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) فمن خاف عدم العدل فليس له في زماننا إلا واحدة لأن الإماء والجواري وهن المقصودات بقوله (أو ما ملكت أيمانكم) لم يعد لهن وجود في هذه الأيام.
إن الزواج بالنسبة لنا نحن المسلمين ليس قفصا، بل هو قصر فسيح إن شاء الله، بما فيه من سعة ورحمة، وهذا بالطبع لمن كانت له مبادئ شريعتنا الغراء، وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدوته، أما أبناء الثقافة الغربية، أتباع هيغل وسارس وفلاسفة الغرب، فهم في قفص هم وأزواجهم، لأنهم ابتعدوا عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرموا على أنفسهم ما أحل الله، وغيروا في شريعة الله، فكان الضنك والشقاء جزاءهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)، وإنه لمن الإعراض عن شرع الله وعن ذكره ودينه، ما نراه من اتباع للثقافة الغربية، وتقليد لهم في مبادئهم وقيمهم، حتى أصبحنا نرى القضايا بأعينهم، ونفهم الواقع بأفهامهم، وأصحبنا نقلدهم حتى في أسلوب الحياة، فترى الرجل له زوجة واحدة وولد وبنت، بل تراه ينتقد من كان له عدد من الأبناء، ويظن أن التطور والتحضر هو ذاك، وأن كثرة الأبناء والزوجات تخلف وبعد عن الحضارة، فيشقى المسكين من حيث لا يدري أنه شقي، وتمر عليه السنون، يقضيها في خدمة هذا الولد وتلك البنت، حتى إذا أخذ منه الكبر مأخذا، لم يجد غيرهما له سندا إن كان فيهما مستند، وإلا فإن أبناء هذه الثقافة لا يعرفون ما هو بر الآباء، كما لا يعرفه أساتذتهم وقدواتهم…
إن أمثال هذه المفاهيم وهذه العبارات لا تليق بمجتمعنا ولا تتناسب مع قيمنا، بل الأولى من ذلك أن نتشبث بقيم ديننا الحنيف ونعيش على مبادئ محمد عليه الصلاة والسلام {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138].
——————————————————————————–