1ـ لماذا نحتاج لقدوات مؤثرة ؟
يقول الله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } التوبة : 128 .
لقد حوت هذه الآية ملامح القدوة المؤثرة ، لكل من أراد عمليًا أن يتأسى به غيره ، ولسنا بصدد الحديث عن المعانى بقدر ما نحن نريد أن نستبين ملامح التأثير من خلال القدوة ، والتى تتلخص فى علامتين يتحققان فيمن يقتدى ، وتدلان على نجاح التأثير :
الأول : رادع
بمعنى رادع داخلى يسرى فى كيان الذى بقتدى ، يجعله بعيدًا عن ارتكاب كل ما يخل بالخلق ، هذا الرادع هو أثر التأثر ، ولا يتحقق بإكراه خارجى ، أو إجبار سلطوى ، وإنما يتحقق بنداء داخلى أقوى من الإكراه ، وأجلد من الإجبار , يدفعه إلى الالتزام والثبات والاستمرار .
الثانى : محرك
وهو دافع من الداخل ، ليس له هم إلا الارتقاء بالذات نحو المعالى ، وهذا هو ملخص التأثير ، حيث إن الطموح جزء من هذا الارتقاء وليس هدفًا ، حتى أهداف الإنسان تتحول لديه إلى مراحل للوصول إلى المعالى ، فهو دائم الحركة ، عالى الدافعية ، مرتفع عن الأموال والمنافع والمصالح , أن تكون لها أدنى سبب فى دفعه نحو تحركاته أو حركاته أو سلوكاته أو تصرفاته .
ومن ثم لم يكن للمؤمنين الصالحين أوالناجحين فى الحياة , وهم الذين يمثلون القدوة , إلا أسوة واحدة لهم جميعًا ، يقول تعالى : { لقد كان لكم فى رسول الله , أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا }الأحزاب : 21 .
فالقدوات الذين يتأسون بالأسوة صلى الله عليه وسلم على نوعين , الأول : منهم من مات على الحق ، مثل الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والثانى : من القدوات ، وهم أحباء زماننا من الأخيار ، والفرق بين النوعين أن النوع الثانى لا تؤمن عليه الفتنة .
2ـ أهمية التأثير للقدوة :
القدوة المؤثرة هى التى تبلغ أهدافها المرسومة ، ولذلك يأتى التأثير مكملاً لمن أراد أن يكون قدوة فى أى مجال من المجال ، ولأى شريحة كانت ، وذلك لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام والأقوال .
فما هى الأسباب التى تجعل القدوة مؤثرًا بسلوكه ؟
بشيء من التأمل نجد أن القدوة فى حياة الآخرين ، أسرع فى التأثير فيهم ، فالأنظار تتجه إليه ، والمشاعر تهفو حوله ، والقلوب تلتقى عليه ، فلو قلنا كهرباء تسرى فالقدوة أقوى فى الفولت ، ولو قلنا مغناطيسية تؤثر فالقدوة أبلغ فى الجاذبية ، ولو قلنا ديناميكية تحرك فالقدوة أسرع فى حركة الآخرين .
فما أسباب ذلك ؟
الأول : القدوة المؤثرة مثال حى للارتقاء فى درجات الكمال ، فهو دائمًا ينشد الكمال ، ويطلب المعالى ، فهو بذلك مثارٌ للإعجاب والتقليد من الناس ، يسرى فى عروقهم ، ويمتد فى أعصابهم ، فيقلدون وهم فى نشوة وإعجاب .
الثانى : القدوة المؤثرة يتحلى بالفضائل الخلقية ، لا يتنازل ولا يساوم عليها أبدًا ، ويتحمل الكثير للانتصار لها وتحقيقها ، ولذلك فهو يقابل من الآخرين ، بالقناعة التامة بأفكاره به ، وتبنى مواقفه عن طواعيه وتبنى ، من أجل بلوغ الفضائل ، ومناشدة المعالى للمقتدين به .
الثالث : القدوة المؤثرة مثال عملى يراه الناس ، ويشعرون بمواقفه ، ويفقهون مراميه ، ويعيشون مع مقاصده ، وبذلك فالناس تتساوى , حيث لا توجد بينهم فروق فى التأثر ، لسبب واحد هو اتحادهم فى الرؤية وتأثرهم بالفعل ، والذاكرة تخزن مما تراه وتسمعه ., مطبقًا أمام ناظريها بأكثر من 90% ، وهذا المخزون هو الذى يُستدعى عند تشابه المواقف ، بنفس ما رآه من قدوته التى يقتدى بها .
الرابع : القدوة المؤثرة تتجه الأنظار إليه ، كتعبير عن التأثر الداخلى بسلوكه ومواقفه ، وهذا ما يدمر سلبية الآخرين ، حيث يدعوهم إلى الإيجابية والحركة ، وطرد كل كسل أو تراخى أو تهاون أو إهمال ، ولذلك فالتأثير هنا بمعناه الإيجابى ، وليس السلبى ، حينما يكون القدوة غير قادر على إحداث حركة فى الآخرين لكسله هو وسلبيته وتقاعسه ، حيث لا يدرى أن الأنظار تتجه إليه ، كالرادار تفسر أى حركة أو قول أو سلوك يصدر منه .
3ـ أصول التأثير لمن أراد أن يكون قدوة مؤثرة :
أولاً: الصلاح
وهذا هو الزاد الداخلى ، والوقود الذاتى ، حيث أنه لا يُستعار ولا يُباع ولا يُقترض ، فإنه نابع من النفس ، وهو الدرجة الأولى نحو القدوة المؤثرة ، ويتمثل الصلاح فى توفر هذه القواعد الثلاثة :
1ـ الإيمان :
والمقصود بالإيمان المؤثر لدى القدوات ، هو إيمان العمل ، واعتقاد السلوك ، لا تتفوه به الأفواه ، بقدر ما تفصح عنه الجوارح والمواقف والتصرفات ، فهناك فرق بين من يتحدث عن الإيمان بلسانه ، وبين من تحدثك جوارحه عن الإيمان ، فالأول يخاطب الهواء الذى حول الآذان ويقابل بالشك والارتياب ، والثانى يخاطب القلوب لأنها هى البوابة التى تتلقى الحقائق بالترحاب والثقة واليقين .
2ـ العبادة :
والمقصود بالعبادة المؤثرة لدى القدوات ، ليست فى الحركات الساجدة أو الراكعة أو التواجد فى الصف المؤمن ، أو الاعتكاف فى بيوت العبادة ، وإن كان كل ذلك وغيره دليل على الإيمان ، ولكن بشرط واحد وهو ما يجعل العبادة مؤثرة ، ألا وهو الاستمرار ، وهو مرتبط بالإيمان القوى ، وكلاهما يدل على الآخر ، فصور التهاون فى الفروض أو الجماعات أو التقصير فى العبادات الفردية أو الجماعية , كالصوم التطوعى والصدقة وقيام الليل , أو الزكاة والعمل الإجتماعى وخدمة الآخرين ، فكل ذلك دليل على قوة أو ضعف الإيمان ، وليس عيبًا أن يقوى القدوة إيمانه ، بل كان ذلك منهج قدواتنا من الصحابة فى قولهم : هيا نزداد إيمانا … هيا بنا نؤمن ساعة .
3ـ الإخلاص :
أما إخلاص القدوات ، فهو غير إخلاص غيرهم ، وليس هذا بدعًا ، فقد ورد إلينا من أفواه الكثير منهم : أن اخلاصنا يحتاج إلى إخلاص ، وهناك ما يسمى إخلاص خاصة الخاصة ، وذلك لأنه هو نفس إخلاص الآخرين ، ولكنه يزيد عليهم درجة ، فى زيادة الخفاء ، والتماس القبول ، والتمادى فى السرية ، لأن الأنظار التى ترقبهم ، تنتظر منهم الإيماءة للعمل ، فهل ينجون هم بالإخلاص الأول ، ويضلون الآخرين ؟.
ثانيًا : حسن الخلق
والأخلاق المؤثرة هى التى لها علاقة بالناس، وارتباط بالآخرين ، مثل الصدق والصبر والرحمة والتواضع والحلم والرفق ، فإذا خلا فيها الأمر من الناس ، فلا تحقيق لها ، ولا تأثير فيها ، ولذلك فالقدوة المؤثرة هى التى تتحلى بهذه الأخلاق ، وكلها كما نرى تعايش ومعاملة وسلوك وممارسة ، وعلى هذا جاءت النصوص الداعمة لهذا المعنى :
ــ فى قوله صلى الله عليه وسلم : [ إن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة ] رواه البخارى .
ــ وفى قوله صلى الله عليه وسلم : [ والصبر ضياء ] رواه مسلم .
ــ وفى قوله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون } السجدة : 24 .
ــ وفى قوله صلى الله عليه وسلم : [ أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ] رواه الترمذى .
ــ وفى قولـه صلى الله عليه وسلم عن الرحمة بالناس جميعًا ، لأنها لدى القدوة المؤثرة أوسـع وأرحب من الرحمة الخاصة بالأبناء أو الأصدقاء :
[ ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء ] رواه الطبرانى ، وفى قوله صلى الله عليه وسلم : [ لا يرحم الله من لا يرحم الناس ] متفق عليه .
ــ وفى قوله صلى الله عليه وسلم : [ وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ] رواه مسلم .
وذلك لأن التواضع هو الطريق السريع إلى قلوب الآخرين ، ومن ثم حبهم وتوقيرهم ، فالقدوة يرجعع كل خير وفضل هو عليه لله تعالى ، فلا يتحدث بفضل نفسه وإنما كل حديثه عن فضل ربه .
ــ وفى قوله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم بالمؤمنين : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب ، لانفضوا من حولك } آل عمران 159 .
ــ وقال صلى الله عليه وسلم , لعائشة : [ عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه ] رواه مسلم .
ثالثًا : موافقة القول للعمل
ــ فى قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } الصف : 2 ـ 3 .
ويقول تعالى : { أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } البقرة : 44 .
وفى الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : [ يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار ، فتندلق أقتاب بطنه (أمعاؤه) فيدور بها كما يدور الحمار فى الرحى ، فيجتمع إليه أهل النار , فيقولون : ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى كنت آمر بالمعروف ولا أتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه ] البخارى ومسلم .
وعن أنس فيما رواه أحمد , قول النبى صلى الله عليه وسلم : [ مررت ليلة أسرى بى على رجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ] .
ــ وبعد هذه النصوص الناهية عن هذه الصفة المذمومة ، ليست فى صاحبها فحسب ، بل أيضًا وهو ما نحن بصدده هنا ، من حيث تأثير ذلك فى الناس ، ولذلك فأسرع تأثير فى قلوب الآخرين ، أن يوافق قول القدوة عمله وسلوكه معهم ، لأنهم مجبولون على عدم الانتفاع بمن خالف قوله فعله ، ولذلك كان من أول ما قال الأنبياء عليهم السلام ، { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } هود : 88 .
فمن أراد التأثير بسلوكه فى الآخرين ، فيعمد إلى قلبه مع ربه نقيًا شفافًا ليشهد الله له بالحب ، فيرقق له قلوب الناس ، ويزرع محبته فى نفوسهم ، يقول تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ، ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام } البقرة : 204 .
وهذه خـطوات من أجل أن يوافق قول القـدوة عمله , فيملك التـأثير فى الآخرين :
ــ لا تكن أقوالك مجانبة لأفعالك أبدًا ، بل اجعل من سلوكك واقع حى تتجلى فيه هذه الكلمات .
ــ اجعل حياتك كتابك المكتوب ، وأقوالك هى النموذج المطبق فى الواقع من سلوكك وتصرفاتك .
ــ اكره الأقوال بلا أفعال ، حتى يصير السلوك الموافق للقول طبعًا لديك ، وتأكد من الأيام على تحقيق ذلك ، وعاتب كثيرى الكلام قليلى العمل .
ــ اجعل نصيحتك الدائمة لنفسك أو الآخرين ، هى : ( تطبيق العلم قبل الحديث به ) ، فكثرة الأعمال قبل كثرة الأقوال .
ــ عوّد نفسك دائمًا على الحركة ، وكن دينامو ساخنًا ، يدفع الناس بعمله ، ويرفع الآخرين , باستمراره وتواصله بالأعمال .
ــ لا شىء كالاستقامة فى الحياة ، بكل نواحيها ، ترجمة لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } هود : 112.
ــ الثبات على المبدأ والتضحية فى سبيله ، وعدم تسلل الهوان أو التردد ، يجعل القدوة خير مؤثر فى الناس ، ويقول تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } السجدة : 24 .
ــ الابتعاد كل البعد عن ملذات الدنيا وزخرفها وزينتها والقناعة بالحال ، والعزوف عن الاستكثار من الأموال والمتاع ، فكم كان هذامؤثرًا فى قلوب أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم , وهم يرونه يقول : [ مالى ودنياكم هذه ما أنا إلا فى الدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها ] .
ــ عليك أن تسأل نفسك دائمًا هذا السؤال : هل ما أقوله لغيرى هو ما أفعله لنفسى ؟ حتى لا يقول الناس : من لم يكن قادرًا على إدارة نفسه وشئونه ، فبأى حق يريد أن يدير شئوننا ؟!!.
ــ الناس يأسرهم الفعل ، ومن خالف فعله قوله , سقط من أعين الناس ، فلم يعد لعمله قيمة ، فقد قيل : ( من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه ) ، وقيل : ( عمل رجل فى ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل فى رجل ) فكن رجلاً بعمله , تؤثر فى ألف رجل إن أردت .