أما بعد ، أيها الناس :
فإن الناظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد غرضاً لا يكاد يفرغ الحديث عنه إلا ويرجع إليه
افتح صفحات أول سورة في القرآن بعد الفاتحة تجد عشرات الآيات خصصت للحديث عن أهمية ذلك الموضوع في حياة الأمة
إنه الإنفاق في سبيل الله عز وجل
نعم .. الإنفاق في كل طريق يرضي الله تبارك وتعالى سواءً كان انفاقاً واجباً أم مستحباً
وفي ذلك يقول ربنا عز وجل {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
فمن كانت هذه حاله فليبشر بأعظم موعود وأكرم مورود كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه عن عبدالله بن سلام أنه قال : أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم انجفل إليه الناس فكنت فيمن جاءه فلما تأملتُ وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب . قال وكان أول ما سمعت منه : (( أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلو بالليل والناس ينام تدخلوا الجنة بسلام ))
وربما أنفق الإنسان نفقة يظنها صغيرة حقيرة فإذا جاء يوم القيامة وجد تلك الصدقة الصغيرة كأمثال الجبال ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم
(( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل )) .
ولا تعجب فأنت تتقرب إلى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .
وفي الصحيحين أيضاً عن عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبين ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة))
نعم .. نصف التمرة ينفعك فكيف بما زاد على ذلك ؟؟
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصدقة تطفئ غضب الرب سبحانه ، و أنها تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار ، وأنها تطفئ عن أهلها حر القبور
فأين الذين انغمسوا في الخطايا من تلك الصدقات التي تطفئها ؟ أين الخائفون من غضب الرب ؟ وأين الوجلون من حر القبور ؟ ألا يتقون ذلك بالصدقات ؟
أين الطامعون في فضل الله ؟ أين المشتاقون إلى الجنة ؟ إلى هؤلاء جميعاً أسوق قول الله تعالى : {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ، وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
كان ابن عمر رضي الله عنه يقرأ القرآن فمرّ بهذه (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) قال: ففكرت فيما أعطاني الله فما وجدت شيئاً أحب إليّ من جاريتي رُميثة ، فقلت هي حرة لوجه الله
قال مولاه نافع : ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد
واستمع إلى قصة أبي طلحة عندما سمع هذه الآية . قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيحين : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب ماله إليه بيرحاء ، وهو بستان يانعُ الثمار عذبُ الماء حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخله أحياناً يشرب من مائه الزُلال .. قال فلما نزلت هذه الآية (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) ذهب أبو طلحة إلى رسول الله فقال يا رسول الله إن الله يقول : ((لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وأنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال صلى الله عليه وسلم (بخٍ بخٍ ذلك مال رابح ذلك ما رابح).
ومن أبي طلحة إلى طلحة بن عبيدالله أحد المبشرين بالجنة
أخرج الطبراني بإسناد صحيح عن سُعدى زوج طلحة رضي الله عنهما قالت : دخل عليَّ طلحة يوماً وهو خاثر النفس فقلت له : مالك كالح الوجه ؟ ما شأنُك ؟ فقال : المال الذي عندي قد كثُر وأكربني فقالت : وما يُغمك ؟ ادع قومك (تعني فاقسمه بينهم) فدعا طلحة قومه فقسم المال بينهم حتى لم يبق منه شيء ، وكان اربعمائة ألف درهم
أيها المسلمون:
كأني بنفوس المؤمنين – أسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم – كأني بها قد تاقت إلى البذل والإنفاق في سبيل الله تقرباً إلى الله وطلباً للدخول في رحمته
ولذلك فإني أسوق إليكم أصنافاً من مشاريع الخبر ووجوه البر وطرق الإحسان
فمن أعظمها وأشرفها بناء المساجد حيث يحُتاج إليها
فعن عثمان بن عفان رضي الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة) أخرجاه في الصحيحين . وفي رواية لابن ماجه : (ولو كمحفص قطاة أو أصغر) أتدرون يا عباد الله ما مفحص القطاة ؟ إنها الحفرة التي تحفرها القطاة لتضع فيها بيضها !! فلو كان المسجد بقدر تلك الحفرة أو أصغر بنى الله لبانيه بيتاً في الجنة
فما أسعد ذلك المسلم الذي وفقه الله لبناء مسجدٍ بالأجر العظيم من الله ، فوالله إنه لا يصلي فيه مصل ولا يتعبد لله متعبد من قارئ للقرآن أو عالم أو متعلم أو معتكفٍ إلا كان له من أجره نصيب . فإين الطالبون فضل رب العالمين ؟
ومن أعظم أعمال البر نشر العلم النافع عن طريق طباعة الكتب أو شرائها وتوزيعها أو توزيع المواد السمعية النافعة المشتملة على التلاوات القرآنية والدروس العلمية والدعوة إلى الله عز وجل
حدث أحد الدعاة في إحدى البلاد : يقول كنا في جاهلية وبدع وضلال حتى رجع حجاج بلادنا من مكة ومعهم كتب فيها العقيدة الصحيحة فقرأناها وصلحت عقائدنا بعدها والحمد لله
ومن أعمال البر : طباعة المصاحف وإنشاء المعاهد التي تعلم العلوم الشرعية
ومن ذلك : إنشاء القنوات الفضائية الإسلامية التي تنشر الإسلام والسنة : تدعو الكافر وتعلّم الجاهل وتهدي الضال وتذكر الغافل ، ينتفع بها الملايين علماً وهدى وصلاحاً ، فهنيئاً لمن وفق لذلك من أثرياء المسلمين .. هنيئاً له ما يفتح الله على يديه من الخير والعلم والإيمان ، ويا خسار من جمع فأوعى ، جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده ، ولئن كانت القنوات التلفزيونية تحتاج إلى مال كثير فإن القنوات الإذاعية أيسر منها وأقرب
ومن أعمال البر : السعي في فكاك المساجين ممن سُجنوا في ديون لا يستطيعون لها سدادا فهؤلاء هم المعسرون ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر ، أو يضع عنه) فإن بعضهم ربما أمضى في سجنه سُجن مدداً طويلة في خمسة آلاف وعشرة آلاف ونحوها فحُرم منه الوالدان وبكاه الزوجة والولدان ، والله وحده المستعان
هذه يا عباد الله أنواع من طرق الخير ووجوه الإحسان اكتفيت بها خشية الإطالة وإلا فالأنواع كثيرة جداً ويكفي من القلادة ما أحاط العنق.
أيها المسلمون.. لا يقولن قائل إنا غير مُستطيع إلا أن يكون فقيراً فإن لم يكن فقيراُ فلينفق حسب استطاعته ولو بشئ يسير بين الحين والحين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ….. وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا }
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية
أما بعد ، فيا معاشر المسلمين : ربما تاق إلى الإنفاق من لا مال لـه ولا متاع فرجع حسيراً كسيراً تفيض عيناه البصيرتان وتتقلب يداه القصيرتان .
(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)
وإلى هؤلاء أسوق سؤال إخوانهم من فقراء الصحابة وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور (أي أهل الأموال) ذهب أهل الدثور بالأجور، بالدرجات العلا والنعيم المقيم فقال صلى الله عليه وسلم وما ذاك ؟ قال يصلون كما تصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال صلى الله عليه وسلم ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة. أخرجاه في الصحيحين
فاشكر الله يا عبد الله على ما تفضل به من صنوف الخير والإحسان
ثم احذر يا عبدالله أن يوسوس لك الشيطان فيوهمك بأنك من الفقراء الذين لا يستطيعون إلا التسبيح والتحميد والتكبير مع أن الله ملّكك مالاً ومركباً حسناً ومرتباً مناسباً وحالا ميسورة، فإن جاءك الشيطان ليقول أنت من الفقراء فتذكر أنك ربما اشتريت لأولادك أحسن اللباس بأغلى الأثمان وتذكر أنك ربما أخرجتهم إلى النزهات والرحلات وانفقت الآلاف ولا تبالي وتذكر أنك ربما دعوت ضيفاً فتكلفت الأموال ولا تبالي، فاحمد الله ولا تنكر فضله وتصدق من فضل الله الذي آتاك.
وكثير من الناس ولله الحمد مستطيعون أن يكفلوا كل شهر يتيماً بمائة وخمسين ريالاً، ومستطيعون أن يساهموا في ترتيب مدرسٍ لتحفيظ أولاد الحي القرآن، ومستطيعون أن يشتروا نسخاً من المصحف أو من كتب أهل العلم ليجعلوها وقفاً لله، ومستطيعون أن يؤمنوا حقيبة مدرسية لطالب فقير ربما لا تتجاوز الواحدة مائة ريال لسنة كاملة، ومستطيعون أن يساهموا في أبواب كثيرة من مشاريع الخير، لكنه الشيطان، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين
وجعله في موازين حسناتك