تخطى إلى المحتوى

إطلالة على المنافع السياسية في الحج والولاية المتعلقة به 2024.

إطلالة على المنافع السياسية في الحج والولاية المتعلقة به

د.سعد بن مطر العتيبي

بسم الله الرحمن الرحيم

من أركان الإسلام الخمسة : حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا ؛ و وهو شعيرة عظيمة وعبادة جليلة المنافع ؛ فقد بيّن الله تعالى شيئاً من حكم الحج العظيمة ، ووصفها – سبحانه – بما يدل على أنّها عبادة كثيرة المنافع عظيمة الفوائد ، إذ قال جلّ شأنه : ( وأذِّن في النّاس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات … ) .

وإذا تأملنا كلمة منافع وجدناها كلمة عامة ، لم تقيد بوصف معين ولا نوع محدد من المنافع ، وقد تكلم المفسرون رحمهم الله في مدلول كلمة منافع في الآية ، بينوا عمومها للمنافع الدينية والدنيوية ، بالنص أحيانا وبالتمثيل أحيانا ، فقالوا هي : منافع الدنيا والآخرة ؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن ، والذبائح والتجارات ، ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه ، و مجاهد وغيره من أهل العلم ، وأنَّ هذه المنافع تشمل كلّ ما يرضي الله تعالى من منافع الحج سواء كان ذلك من أمر الدنيا المحض أو أمر الآخرة .

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : " قوله (منافع) جمع منفعة ، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي .

وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية ، وأنَّ منها ما هو دنيوي وما هو أخروي .

أما الدنيوي فكأرباح التجارة ، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه ، فإنه يحصل له الربح غالبا ، وذلك نفع دنيوي … ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح … وقد بينت آية البقرة على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره ، ووجه اختياره له بكثرة الأحاديث الدّالة عليه : أن من المنافع المذكورة في آية الحج : غفران ذنوب الحاج ، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقيا ربّه في حجّه بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه . وذلك أنه قال في معنى قوله تعالى : ( فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه ) أنّ الحاجّ يرجع مغفوراً له … وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأنَّ معنى قوله ( فلا إثم عليه ) في الموضعين : أنَّ الحاج يغفر جميع ذنوبه ، فلا يبقى عليه إثم فغفران ذنوبه هذا الذي دلّ عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله : ( ليشهدوا منافع لهم ) ، وعليه فقد بينت آية البقرة هذه بعض ما دلت عليه آية الحج ، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا كحديث ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، وحديث ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) .

ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن : حديث : ( إن الله يباهي بأهل عرفة أهل السماء ) …

ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن : تيسير اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة ، في أماكن معينة ، ليشعروا بالوحدة الإسلامية ، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض ، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين ، وبدون فريضة الحج لا يمكن أن يتسنى لهم ذلك ، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير " أضواء البيان عند تفسيره للآية :3/411-413.

وهكذا نلحظ أن تنكير كلمة ( منافع ) جعلت عبارات العلماء رحمهم الله تعالى في بيان هذه المنافع عامة في كل منفعة دينينة ودنيوية ، وكان منهم من فسّرها بالأمثلة لهذين النوعين من المنافع ، أعني الدينية والدنيوية .

ولمَّا كانت منافع الحج المشهودة تشمل منافع كثيرة ، ومنها ما يحتاج إلى ولاية تنظِّمه حتى يؤتي ثماره ؛ فإنَّه لا يكاد يخلو كتاب من كتب الأحكام السلطانية – والسياسة الشرعية بمدلولها العام المرادف لذلك – من بحث في أحكام ولاية الحج ، بوصفها أحد الولايات العامة في الفقه السياسي الشرعي .

وقد بيّن العلماء حكم ولاية الحج ووجوب تأمير أمير على حجاج بيت الله الحرام وجوبا شرعيا ؛ لينتظم أمر هذا الجمع الكثير ، وتستقيم أحوال الحجاج أمنا وسلامة ويسرا ، ويتفرغ النّاس لأداء الحج في جو روحاني لا تنغصه المنغصات ، ولا تُذهب منافعه الطارئات .

وفي التاريخ الإسلامي نجد أن الإمام الأعظم قد يكون هو من يتولى هذه الولاية ، وقد يكون أمير الحاج شخصا آخر ينيبه الإمام الأعظم ، كما بيّنه العلماء ، ومن ذلك قول الآجرّي رحمه الله : " فإمرة الحج ولاية سياسية ، وتدبير وهداية ؛ لأنها من أجلّ المراتب الدينية ؛ لأنّها من أجل المراتب الدينية ، وأفخم الوظائف السُّنِّيَّة ، فدخل بهذه المرتبة الشريفة فوق النَّيِّرَيْن … وناب عن الإمام الأعظم في خدمة الحرمين الشريفين .

فقد تولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، فحجّ بالنّاس السنة العاشرة ، كما هو مقرّر معلوم …" .

ولأهمية هذه الولاية وأصالتها على مرّ تاريخ الدول الإسلامية ، أُلّفت مؤلفات في تعداد من ولي إمرة الحاج في التاريخ الإسلامي ، ومن ذلك كتاب : "حسن الصفا والابتهاج بذكر من ولي إمرة الحاج" لأحمد بن عبد الرزاق الرشيدي ، الذي اختصره الخضراوي رحمهما الله تعالى .

وقد ذكر علماء السياسة الشرعية كالماوردي وأبي يعلى – رحمهما الله – وغيرهما : أن ولاية الحاج نوعان :
1- ولاية تسيير الحجيج . ووصفوها بأنها ولاية سياسية ، وزعامة وتدبير . فيشترط لها ما يشترط في عموم الولاة ، وتتعلق بها عشر وظائف ذكرها العلماء ، تتوزع على كل ما يخدم الحاج ومن الخدمات ، وما يصلح أمرهم من الأنظمة والجزاءات .
وهي وظائف ومهام يقودها في هذا العصر الملك في المملكة العربية السعودية ، بوصفه صاحب الولاية العظمى في المملكة التي هي بلاد الحرمين ، ويلحظ ذلك في لقب ( خادم الحرمين ) الذي حلّ محلّ الوصف بـ ( جلالة الملك ) في عهد الملك فهد رحمه الله سابقا ، واستمرّ في عهد الملك عبد الله حاليا .
وتبعا لتطور الدولة في هذا العصر من حيث وظيفتها ، نجد أن هذه الوظائف تتوزع اليوم داخل المملكة العربية السعودية – أرض الحرمين – من الناحية التنفيذية ، على عدد من الجهات الحكومية ذات العلاقة المباشرة ، كإمارة منطقة مكة ، و وزارة الحج ، ورئاسة الحرمين ، و وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، و وزارة الداخلية ، ورئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، و وزارة الصحة ، و وزارة العدل وغيرها .
وهي ولاية تصل صلاحياتها السياسية الشرعية إلى حد إصدار أنظمة سياسية شرعية ، تستند إلى المصلحة الشرعية العامة ، وتحقق المقاصد الشرعية في أداء هذه العبادة دون ضرر أو إضرار على أفضل ما يمكن . ومن ذلك تقييد بعض المباح والمشروع ، تحقيقا للمصلحة الشرعية العامّة ، التي يقرّها علماء الشريعة ؛ ومن ذلك ما يتعلق بتقييد عدد الحجاج بنسب معينة ، وطلب تصاريح للحج ؛ ابتغاء تنظيم الحج على نحو يحقق المصلحة العامة لعموم الحجاج من كل فج عميق ، وهي أنظمة أقرّها أهل العلم لاستنادها إلى المصلحة الشرعية ، فاتخذت شرعية في التطبيق بوصفها من جملة أحكام السياسة الشرعية .

2- ولاية على إقامة الحج في مكة والمشاعر . ووصفوها بأنها بمنزلة إمامة الإمام في إقام الصلاة ، ولذلك يشترط في من يتولاها العلم بأحكام الحج ، وكيفية أدائه على النهج النبوي ( خذوا عني مناسككم ) .
وهي وظائف تتجلى اليوم في عمل عدد من الجهات الشرعية الرسمية ، من أهمها : منصب سماحة المفتي وإمامته للناس في الحج وتوليته خطبة عرفة ، و كذا اللجنة الدائمة للإفتاء ، ولجان توعية الحجاج التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية ، وهيئة الأمر بالمعروف في جانبها الإرشادي ، وكذا الجهات الرسمية غير الحكومية ، المساندة لجهود التوعية بأحكام الحج وتوعية الحجاج توعية شرعية .
ومن هنا كان واجبا على الدولة الإسلامية أن تحمي الحجاج حماية عقدية وفكرية وبدنية .
وإذا ما تحققت هذه الولاية بقسميها بصورة صحيحة ؛ فإنَّ الحج يؤتي منافعه المتنوعة ، الدينية والدنيوية ، ومن ذلك المنافع السياسية .

ومن فوائد الحج التي تتجلى فيها المنافع السياسية : كونه مؤتمر اجتماع وتعارف ، وتنسيق وتعاون بين المسلمين ، ولا سيما مع جعل ذلك واقعا عمليا منظّما في عدد من صوره ، في مثل المؤتمرات الإسلامية المصاحبة للحج التي تجمع قيادات المسلمبن في العالم الإسلامي وفي مواطن الأقليات الإسلامية ، ويتدارسون فيها جملة من قضايا العالم الإسلامي ، تحت رعاية الجهات الرسمية والمؤسسات الشرعية العامة .
وتتجلى السياسة أيضا في مخاطبة الكافة ممن يحضرون الحج ، وممن لا يحضرونه بما ينقل لهم عن طريق الأشخاص ، ليعلموه ويبلغوا من وراءهم ، ( فرب مبلغ أوعى من سامع ) ، أو بما يستجد من وسائل كما في عصرنا الحاضر ، من النقل المباشر وغير المباشر للحج ، و ما يُعلن فيه من بيان للقضايا التي تهم الأمة كلّها ، وهو ما يتضح في خطبة عرفة ، تلك الخطبة التي كانت السياسة من أهم موضوعاتها في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلك الخطبة التي شملت الحديث عن جُملٍ من السياسة الداخلية والخارجية ، وبيانٍ للحقوق والواجبات للفرد في الإسلام .
وتتجلى ناحية سياسة أخرى وذلك في : تحديد حرمة المكان وبيان عمقه الاستراتيجي الذي يُشرع لمن يدين بالدين أن تطأ قدمه المدينة المحرمة المقدسة ، فيأتي الحاج المسلم مبتهجا مسرورا ، يأوي إلى البيت الحرام بشعور الانتماء العظيم للأمة ، كما لو كان البيت بيته ؛ بينما تتمنع قداستها وحرمتها عن قبول من لا يدين بدين أهلها ولا ينتمي لولائها الديني زمانا ومكانا وأمة – أن يطأها بقدمه ولمّا يؤمن بقدسيتها وحرمتها واجبا من واجبات إسلامه ، لا وسيلة لتحقيق أغراضه ؛ ومن هنا تتجلى خطورة أهمية بقاء هذه الولاية في أيادي سُنيّة أمينة ، كما تتجلى خطورة أي دعوة تسعى إلى تدويل الحرمين مهما كانت حججها .
ومن فوائد الحج السياسية اليوم : إثبات صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، فكم من زائر للبيت الحرام قد شوهت عنده صورة بلاد الإسلام ومنطلق العقيدة والشريعة قبل وصوله ، فلما دخل بلاد الحرمين ، وزار البيت الحرام رأى عدم تعارض الشريعة مع الأخذ بالوسائل العصرية والتفوق في الأمور الدنيوية وتوظيف الدنيا للدين ، وقد رأينا وسمعنا شهادات كثيرة وتعبيرات عن المشاعر تغيرت فيها النظرة التي أوجدها التشويه الإعلامي للإسلام وأهله ، حتى ظن بعض الناس من أبناء المسلمين البعيدين أن الدين لا يتوافق مع العلم .

وبهذه الإطلالة يتبين أن منافع الحج السياسية باب واسع من أبواب حكمه ، يمكن العمل لتحقيق أكبر قدر منها بتوظيف هذه الشعيرة توظيفا شرعيا يتفق مع أهداف الحج ، ويحقق منافعه ، من خلال ضبط إداري وسياسي وتراتيب دعوية راقية ، تعمل من أجل وحدة الأمة على منهاج النبوة ، فيعود منها المسلم وقد ارتوى من معين العبادة ، وتشبّع بروح الوحدة ، وآبَ مستشعرا وظيفته الدعوية في كل فج أتى منه .

نسـأل الله تعالى أن يحفظ لبيته العتيق أمنه وأمانه ولحجاج بيته حجا مبرورا وسعيا مشكورا ، ولكل من قام بخدمة الحجيج نية صالحة وعملا متقبلا .
وصلى الله على نبينا محمد وآلة وصحبه .

خليجية
جزاك الله خيرااا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.