بسم الله الرحمن الرحيم
سألت صاحبي في يوم ما أثناء امتحانات آخر العام: ماذا ستفعل هذا الصيف؟ وماذا تفعل كل صيف؟
فرد صاحبي علىّ بلا مبالاة: لا أفعل شيئًا، كل صيف كالذي قبله، لا تغيير: أتنقل بين قنوات الأفلام والأغاني والرياضة، فإذا مللت تصفحت بعض مواقع الإنترنت وتحادثت مع أصحابي في غرف الدردشة، وأحيانًا أخرج مع أصحابي لنسير في الأسواق أو على الكورنيش أو نجلس في أحد النوادي أو المقاهي، وعند الفجر أنام نومًا عميقًا فلا أستيقظ إلا عصرًا… وهكذا.
قلت لصاحبي: هل هذا كل ما تفعله في الإجازة؟!!
قال: نعم، وماذا أفعل غير ذلك؟ أحيانًا أشعر بالملل، فإني لا اجد جديدًا أفعله، فأضيع وقتي بين النت والقنوات والفسح والنوم.
قلت لصاحبي والحزن يملأ قلبي: تضيع وقتك؟! وهل الوقت ملك؟ وهل لك حق التصرف فيه؟ أم هو ملك لله الذي خلقك وخلقه؟
أجاب صاحبي: بل الله خالق كل شيء.
قلت: حبيبي إنما خلقت في هذه الدنيا من أجل هدف محد تعمل له طيلة حياتك، قال الله الذي خلقك: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فهو -سبحانه- ماخلقك لغير ذلك، وجعل ثوابك الجنة إن أنت قمت بما طلبه منك… الجنة حيث لا تعب، ولا قلق، ولا مرض، ولا هم، ولا غم، ولا ملل… هل تحب أن تدخلها؟
قال: نعم، ومن لا يحب ذلك؟!
قلت له: إن كنت تحب أن تدخلها فهل عندك من الوقت ما تضيعه؟ أضمنت الجنة؟!
أخي لا تقل: أضيع وقتي؛ بل قل: أضيع عمري، أضيع حياتي، أضيع ديني، أضيع جنة ربي.
أتعلم أخي الفاضل أن الله عز وجل- قد خلق ملكين لا عمل لهما إلا تسجيل كل ما تقوله وكل ما تفعله: قال -تعالى-: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53]، نعم فخروجك وجلوسك وكلامك وضحك ونظراتك وسماعك حتى نومك مكتوب عند الله في كتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وستحاسب عليه يوم تقف بين يديه.
فنظر إلي صاحبي متعجبًا ما قلته وقال: أيعني ذلك أن كل هذه الفسح وجلسات السمر والدردشة على النت مكتوبة عند الله وسيسألني ربي عنها يوم ألقاه؟!
أجبته: نعم، إنه ما من نفس من أنفاسك إلا وستحاسب عليه هل خرج لله وفي رضاه أم كان في غضب الله وسخطه؟
لقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه، حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟…» [الراوي: عبدالله بن مسعود، المحدث: الألباني، حسن].
أخي الحبيب: إنك بعد موتك معروضة عليك أعمالك وسنوات ضياعك ولن تستطيع أن تنكر منها شيئًا، وأنّى لك الإنكار والأرض تشهد والسماء تشهد والملائكة تشهد، والإنس والجن يشهدون، والجوارح تشهد: قال -تعالى-: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، والله خير الشاهدين.
قال أخي وهو شارد الذهن وكأنه قد تخيل نفسه في هذا الموقف: كل هؤلاء شهود على أعمالي… يا الله رحمتك!!
قلت لصاحبي: فكر أخي هل لو مت هذه الحظة أتكون في رضوان الله أم سخطه؟
ماذا قدمت لنفسك؟ ماذا قدمت لأمتك؟ ما قيمتك في هذه الدنيا؟ وما أهدافك وآمالك التي ترجو تحقيقها؟
طأطأ صاحبي رأسه فترة… وبعد طول صمت، قال: الحقيقة أن لا أذكر لي أعمال خير نفعت بها نفسي، أو قدمتها لأمتي، والحقيقة كذلك أني ما فكرت أصلا في هذا الذي قلته.
قلت لصاحبي: يا الله… أخي الحبيب أتفهم ما تقول؟ ألقاء فتاة تحبها أو صديق تحبه لا يُنسى!! ولقاء الله الذي خلقك وسواك وشق سمعك وبصرك يُنسى، ألم تسمع قول ربك -عز وجل-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
أخي والله أحب لك النجاة، أسمعت ما قاله ربك؟ إن نسيان الله وآياته ولقائه يعني الهلاك والنار يوم القيامة.
قال صاحبي والدموع تملأ عينيه: أنا ضعيف، أهدافي في الحياة حقيرة، وآمالي كلها سخيفة، ولا أستطيع الثبات على طاعة ربي، ولا أظن مثلي يقدر على تغيير نفسه فضلًا عن تغيير غيره.
قلت له: لا يا أخي… إياك واليأس، واعلم أن هذا هو الشيطان يريد أن يقعدك عن كل خير، وهي كذلك نفسك الأمارة بالسوء تهوى أن تستمر على ما هي عليه من متع الدنيا وشهواتها: شرب، أغاني، بنات، شات، أفلام، سهرات…
اعلم حبيبي أنك قوي بالله، فاطلب من الله الهداية يهدك، وارجع إليه معترفا نادما يقبلك، واطرق بابه يفتح لك، ويغفر لك كل ذنب، بل ويبدل سيئاتك حسنات.
ثم اعلم أنك لن تنجو ما أنت فيه -بعد التذل لله والاستعانة به أن يثبتك- إلا إذا قتلت هذا الفراغ بالعمل الجاد النافع الذي يرضي الله، فالفراغ هو الدافع لكل معصية؛ وأقصد بالفراغ: فراغ الجوارح عن عمل الخير، وفراغ القلب عن هم لقاء الله -تعالى-، وفراغ العقل عن التفكير لدين الله.
اعلم أن من لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فلا تترك ساعة فارغة في حياتك؛ حتى لا يدخل منها الشيطان فإنه لك بالمرصاد.
ظهر على صاحبي الاقتناع بما أقول، وقال: أتعلم كلامك كله صحيح؛ ولكن يا أخي أقول لك بصراحة: إني لن أجد من يساعدني على تغيير حياتي والسعي في أعمال الخير، فإن أصحابي لا هم لهم إلا إشباع رغباتهم.
قلت: حبيبي "الصاحب ساحب" و«الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخال» [الراوي: أبو هريرة، المحدث: الألباني، حسن]، وكل صاحب يوم القيامة يتبرأ من صاحبه إلا المتقين الخائفين من الله، الذين يتعاونون على الخير، ويبتعدون عن الحرام، قال الله -تعالى-: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
فكم من صاحب كان سببًا في هلاك صاحبه؟! فإياك أن تستسلم لكلامهم ومغرياتهم، وإياك أن تتأثر بسخريتهم واستهزائهم، فإما أن تغيرهم وتؤثر فيهم، وإما أن تنجو بنفسك وتصاحب الشباب الصالحين الذين إذا ذكرت الله أعانوك، وإن نسيته ذكروك.
قال صاحبي: كلام جميل ومقنع… ولكن قل لي الآن كيف أقضي الإجازة كما يحب ربنا؟
قلت لصاحبي: إليك أخي الحبيب بعض سبل الخير التي أنصحك بها في هذه الإجازة لتكون بداية جديدة لحياة جديدة مفيدة ترضي الله -تعالى-:
القرآن: أنزله الله هداية لك، فعد إليه وافتحه وتعلم قراءته واحفظه وافهم معانيه في حلقات التحفيظ الصيفية المقامة بالمساجد أودور التحفيظ.
تعلم دينك: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» [الراوي: أنس بن مالك، المحدث: الألباني، صحيح]، فرض على كل مسلم أن يتعلم أوامر الله التي من أجلها خلق، وعلى رأس ذلك العقيدة: أصول الدين من أركان الإسلام والإسمان وغيرها، وفقه العبادات، وسيرة النبي، وأحاديثه -صلى الله عليه وسلم-.
وتعلم ذلك من خلال: دروس المساجد، والقنوات الدينية، والإنترنت، وليكن لك شيخ أو أخ ملتزم ناصح لك، يدلك على الطريق الصحيح، ومن أين تبدأ في طلب العلم.
دورات علمية: في مجال تخصصك، فالمسلم لابد أن يكون متفوقًا في مجال عمله، حريصًا على ألا يتقدمه أحد؛ لينفع بهذ العلم أمته.
عمل حلال: تتكسب به مالًا تساعد به نفسك وأهلك، وتكتسب منه خبرة، وإياك والعمل الحرام وإن حصدت الآلاف منه؛ فإن ملاين الدنيا لا تساوي نظرة غضب من الله -تعالى-، والله لن يبارك في الحرام فاحذر: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به» [الراوي: أبو بكر الصديق و جابر بن عبدالله، المحدث: الألباني، صحيح]، فاسأل عن العمل الذي تريده: أحلال هو أم حرام؟
الذكر: لا يتوقف لسانك أبدًا عن ذكر الله الذي لا ينساك بنعمه وخيره، فرطب لسانك، ونوِر قلبك، واحفظ لسانك بذكر الله.
السن: كثيرًا ما قصرت في السن، وأوهمك الشيطان أنك مشغول، فها أنت الآن قد فرغت؛ فأكثر من السن: سواء سن الصلاة وصلاة الضحى والوتر، وداوم على صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع.
وسافر لعمرة إن تيسر، وإلا فجلسة في المسجد تذكر فيها الله من صلاة الفجر إلى شروق الشمس، ثم تصلي ركعتين تساوي أجر حجة وعمرة.
الزيارات: خاصة للوالدين والأقارب ثم للجيران والأصحاب، وأبشر فإن الله يكتب لك حبه لك من أجل زيارتك لأخيك زيارة تبتغي بها وجه الله -تعالى-.
خدمة المسلمين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا؛ ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» [الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم، صحيح]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «… وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور تدخله على مسلم…» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: الألباني، صحيح]، فاحرص على إسعاد إخوانك المحتاجين من فقير أو يتيم أو مسكين أو مريض، اذهب لهم وتصدق عليهم واجلس معهم وانصحهم، والله ستجد سعادة في قلبك ما وجدت مثلها قط.
الدعوة إلى الله: إن كان الله قد هداك؛ فعليك أن تحمل هم غيرك، أرشده لطريق الحق برحمة وبأجمل الكلمات وبالمعاملة الحسنة والشريط المؤثر والاسطوانة الهادفة وقبل ذلك وبعده الدعاء له بالهداية.
من أيسر وأعظم القربات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا باليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» [الراوي: عبدالله بن سلام، المحدث: الألباني، صحيح].
أجمل بشرى… رمضان في الصيف!!!
يا طامعين في الجنات، يا خطاب الحور العين، شمروا واجتهدوا، وإياكم أن يضيع منكم الشيطان هذه الفرصة العظيمة، فرصة العتق من النار.
الصيام والقيام والصدقة والقرآن والاعتكاف في العشر الأواخر
اعتكف ليطهر قلبك، اعتكف لتسمو روحك، لتخلو بربك، ليغفر ذنبك، ولتزيح هم الدنيا من عقلك وقلبك.
فكر وابتكر: حد وقتًا في اليوم تفكر فيه لدين الله، فهناك الكثير من المشاريع التي يمكن إنجازها في الصيف وطوال العام مع إخوانك من أجل النمو مع المجتمع المسلم من جميع نواحيه، وكن واثقًا بالله أنه سيوفقك لكثير من الخير، إن أنت جلست وفكرت له -سبحانه-.
اللهو المباح: النفس لاشك تحتاج بين الحين والآخر إلى الترويح والترفيه، والمسلم لا يغضب الله ولا يخالف أمره في جد ولا في لعب، بل هو يتقرب إلى الله بلعبه كما يتقرب إليه بجده… ومن اللهو المباح:
الرياضات بأنواعها: وخاصة السباحة والرماية وركوب الخيل، وأي لعبة تقوي الجسم ولا تضره طالما لم يكن فيها محرم ولم تشغل عن فريضة فهي حلال.
الرحلات: إلى الراغبين في السفر لأماكن السياحة واللهو والفتن، الله يراكم ويسمعكم {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]، من الجميل أن يسافر المرء مع أسرته أو صحبته الصالحة لمكان ما يستمتعون فيه بملكوت الله وعجيب صنعه، ويرفهون فيه عن أنفسهم بالألعاب والمسابقات وجلسات السمر الخالية من الغيبة والنميمة، ولكي تكون الرحلة متعة ومثمرة لابد فيها من التنظيم وتحديد مشرفين عليها، وعلى المسافرين أن يتعلموا أحكام السفر وآدابه.
جلسات السمر: مع الأهل والأصحاب، وينبغي أن يتخللها بجانب المرح والفكاهة، موعظة وتذكير بالله -تعالى- لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من قوم اجتمعوا في مجلس، فتفرقوا ولم يذكروا الله إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة» [الراوي: عبدالله بن مغفل، المحدث: السيوطي، صحيح]، ويمكن أن تكون في البيت، أو على سطح المنزل، أو في الحديقة، بشرط ألا يتخللها كلام محرم، ولا تشغل عن الصلوات خاصة الفجر.
المصيف: الاستمتاع بالماء والهواء حلال، ولكن إن وجد في أي مكان ما يغضب الله -تعالى-: كالأغاني، ظهور عورات النساء والرجال، تواجد أهل الفسق فيه…، فإن هذا المكان في هذه الحالة لا يجوز الذهاب إليه أو الجلوس فيه.
وعليه فلا يجوز لمسلم غيور على دينه وعرضه أن يذهب إلى هذه الأماكن في حالة ازدحامها بالناس، وإن لم تنزل النساء البحر، فإنه لا يجوز أن تنظر النساء إلى الرجال كما لا يجوز العكس.
ونصيحتي: أن يذهب الأصحاب أو الأسرة إلى شواطىء ليس فيها أحد، أو في وقت لا يكون فيه أحد، وهذا خلال العام كثير، فإن ذهب فلابد أن يكون لك وقت للتدبر والتفكر في آيات الله ونعمه.
انتبه: أخي… أختي حتى نستطيع أن نفعل كل هذا الخير لابد من تنظيم وتخطيط لليوم قبل بدايته، فيجلس الواحد منا مع نفسه أو مع أصحابه ليقر ماذا سيفعل غدًا.
وأخيرًا: لديك الكثير من الوقت في غير الإجازة فلا تضيعه، وإنما يوهمك الشيطان أنه لا وقت لديك مع أنك تضيع الكثير من الوقت فيما لا فائدة فيه، فاحرص أخي على اغتنام كل فرصة، والأمر يسير إن أردت ذلك وحملت الهم ونظمت وقتك.
وأختم نصيحتي لك أخي بوصية غالية من النبي -صلى الله عليه وسلم- لو عملها كل فرد في الأمة؛ لتغير الأفراد ولتغيرت الأمة:
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز» [الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم، صحيح].
أختي تذكرى: هذا صيف جديد على عملك شهيد.
بقلم : الشيخ: محمود متولي