تخطى إلى المحتوى

الذبح لغير الله .شرح المنة 2024.

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

ذكرنا قبل ذلك أن الشرك الأكبر في الأسماء والصفات أن يعتقد شخصٌ وجود نِدٍّ لله -سبحانه وتعالى- في أسمائه وصفاته، والشرك الأكبر في الربوبية أن يعتقد نِداً لله -عز وجل- في ربوبيته خالقاً أو مالكاً أو مُشَرِّعًا، فكذلك إذا اعتقد إلهًا مع الله أو صرف العبادة لغير الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله – عز وجل- إلا بالتوبة منه.

فالشرك الأكبر في توحيد الألوهية: هو صرف العبادة لغير الله – عز وجل-، سواء أكان هذا الغير مَلَكًا مُقَرَّبًا أم نبياً مرسَلاً أم ولياً صالحاً [1]، فضلاً عما دون ذلك من الأحجار والأشجار والقبور، ولو على سبيل التوسل إلى الله [2]، فالكفار كانوا يقولون عن آلهتهم : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر:الآية3).

ومعلوم أن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغُلو في الصالحين، وهو الذي وقع فيه قوم نوح -عليه السلام- ، كما قال الله -سبحانه وتعالى- : (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هَذِه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ [3]، وهذا يدلنا على أن الغلو في الصالحين من أعظم أسباب الشرك الأكبر، والمعلوم أن اليهود يعبدون عُزيراً ويسمونه ابن الله، والنصارى يعبدون المسيح ويسمونه ابن الله، وأن المشركين كانوا يسمون أوثانهم بالأسماء المؤنثة المشتقة من أسماء الله – عز وجل- على أنها ترمز للملائكة، التي اعتقدوا أنها بنات الله – تعالى عما يقولون علواً كبيراً ـ فعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى ، كما قال -تعالى- : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) (لنجم:19-20) فاشتقوا اللاتَ من الله ، والعُزَّي من العزيز ، ومَنَاةَ من المنَّان ، (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (لنجم:21-23) إلى قوله -تعالى- : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (لنجم:27-28)، هذا يدلنا على أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، وكذلك النصارى يعبدون الروح القدس، ويقولون عنه هو الله وأنه أحد الأقانيم الثلاثة المعبودة، أما في هذه الأمة فقد ظهر صرف العبادة للأولياء، ونبهنا على ذلك لكثرة من يصرف لهم العبادة من دون الله، فضلاً عما دون ذلك من الأحجار والأشجار والقبور، حتى على سبيل التوسل لأن كثيراً من الناس لا يعبد هذه الأشياء ابتداءً، ولكن لتقربهم إلى الله – عز وجل- على سيبل الوَسَاطة ، كما قال – عز وجل- عنهم : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر: الآية3)، وقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (يونس:18).

إذن فلا فرق بين كونه قاصداً لعبادة هؤلاء ابتداءً، أو عَبَدَهم على سبيل التوسل إلى عبادة الله – عز وجل-، أو التقرب إلى الله -تعالى-، طالما صرف العبادة لغير الله، وعَبَدَ غير الله – عز وجل-.

ولكن لا شك أن هناك فرقاً بين المشركين الأوائل وبين من وقع في الشرك من هذه الأمة، وهو أن الأوائل الذين بُعِثَ فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاربهم كانوا يُصَرِّحون أنهم يعبدون غير الله، كما قال الله -عز وجل- : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا) ، وكانوا يُسمُّونها آلهةً معبودة ، وأما مَن وقع في الشرك من هذه الأمة فكثيرٌ منهم لا يعتقد أنهم آلهة ولا يرى أنه يعبدهم ، وإن كان في الحقيقة يعبدهم ، كما قال عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ : (يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ ) ، فَطَرَحْتُه وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهم ، فَقَالَ: (أَليسُوا يُحَرِمُون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونه ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَه) ، قُلْتُ : بَلَىَ ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: فَتِلْكَ عِبَادَتُهم [4] ، وذلك لأن من صرف العبادة لغير الله ، حتى ولو لم يُسَمِّها عبادة فقد عَبَدَ غير الله ، لكن هناك فَرقٌ بين مَن لم يقصد العبادة ولم يكن يعلم أنها عبادة ، فهذا لا بد من إقامة الحجة عليه ، وأما من صَرَّحَ بأنه يعبد غير الله فالحجة قائمةٌ عليه بكلمة لا إله إلا الله إذا بلغته عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

لذلك لو قال إنسان إنه يعبد الأوثان التي على قبور الصالحين، فهذا نَقَضَ أصل التوحيد صراحةً ، وأما من قال أنا لا أعبدهم ، وإن كان قد دعاهم واستغاث بهم وطلب المَدد منهم ، فهذا نذكر له الآيات والأحاديث الدالة على أن دعاء غير الله عبادةٌ لهذا الغير، فإذا أصر على ذلك فهو كافرٌ خارج من الملة.

مظاهر الشرك في الألوهية :

1- دعاء غير الله :

من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لمن مات وهو مُصِرٌّ عليه بعد بلوغ الحجة : الدعاء والاستغاثة وطلب المدد من الأموات والغائبين ، قال الله -تعالى- : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف:5-6) ، فهذا أضلُّ الخلقِ ، فالاستفهام (وَمَنْ أَضَلُّ) للنفي ، أي أنّه ليس هناك أضلُّ ممن يدعو مِن دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة ، والآية عامة في أنه ليس هناك أحدٌ من دون الله يستجيب لداعيه ، قال – عز وجل- : (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) لأنهم أمواتٌ وغائبون وغير حاضرين ، (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)، فهذا نصٌ في أن الدعاء هو العبادة لأنه قال : (مِمَّنْ يَدْعُو)، وقال : (هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، ثم قال : (… كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)، فإذن الدعاء عبادة، وهذا نصٌ واضح لا يحتمل تحريفاً ولا تأويلاً في أن الدعاء هو العبادة ، وأنهم إذا دعوا غير الله فقد عبدوا غير الله ، وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ) ، ثُمَّ قَرَأَ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60).

قال -تعالى- : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [ يونس : 106-107 ]، فقد بيَّن -سبحانه وتعالى- وجوب توحيد الألوهية في الدعاء وغيرِه من أنواع العبادات، وبيّن دليله من توحيد الربوبية لأن أكثر أو كل من يدعو أحداً من دون الله فإنّه لابد أن يعتقد فيه الضر والنفع ، فقال سبحانه و-تعالى-: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ)، فلو اعتقد إنسانٌ أن هذا الشيء لا ينفعه ولا يضره فكيف يدعوه من دون الله – عز وجل- ؟!، وكيف يطلب منه قضاء الحاجات وكشف الكُرُبَاتِ ودفع المضار وجلب المنافع ؟!، وإن اعتقد فيه النفع والضر ودعاه من دون الله فهذا من أعظم الشرك في الربوبية وفي الألوهية ، قال – عز وجل- : (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)، وهذا خطابٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به غيره ، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يفعل هذا ، ولكن خوطِب -صلى الله عليه وسلم- بذلك لكي يتبين بهذا أن أصلح الصالحين وأفضل الخلق لو فعل هذا لكان من الظالمين ولكان مشركاً ، كما قال – عز وجل- : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر:65-66) ، فلا يصح أن يُقال : فلانٌ الرجل العالم أو الصالح يفعل ذلك ، أو هناك من المشايخ من يفعلون ذلك ، فإن الآية ذكرت أنه لو فعله نبي من الأنبياء لكان من الظالمين ، فالحُجَّةُ في ذلك هو كلام الله -سبحانه وتعالى- ، فلا يجوز لأحدٍ بعد أن تُبين له الحجة من كلام الله – عز وجل- أن يقول : الشيخ الفلاني يقول كذا ، فإن الله – عز وجل- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)، وهو أفضل الخلق ، ولو فعل ذلك لكان من الظالمين ، فلا يَحْتَجُّ على كلام الله -تعالى- إلا الظالمون الذين لا يصدقون كلام الله -سبحانه وتعالى- فلا يقع هذا من مسلم بعد بيان القرآن.

ولهذا فمن أراد أن يتعلق بدعاء الله وحده، فليستحضر هذا المعنى من توحيد الربوبية، وهو أن الله وحده هو الضار النافع ، فالله – عز وجل- هو الذي يَمَسُّ بالضر من أراد ، وهو الذي يكشف الضر عمن أراد ، والله – عز وجل- هو الذي يَمَسُّ ويريد بالخير من أراد ولا يمنع فَضْلَه سبحانه أحدٌ ، وهي معانٍ تكررت في القرآن العظيم مراتٍ عديدة ، فقال – عز وجل- في سورة الأنعام قال الله – عز وجل-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [ الأنعام : 17-18 ] ، وفي سورة يونس: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107) ، وقال -سبحانه وتعالى- في سورة فاطر : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(فاطر: من الآية13)، و (قِطْمِيرٍ)القشرة التي على نواة التمرة ، وقال -تعالى-: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر:14)، وهذا أيضاً نصٌ قاطعٌ بأن دعاء غير الله شرك ، لأنه قال: (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) فسمى ذلك شركاً.

وقد يقول قائل: إذن فما هو الدعاء؟ وهل يمنع أن يسأل الإنسان غيره؟ أليس الأموات حاضرين بدليل قوله -تعالى- : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)؟

فنقول ليس في الآية وجه للدِلالة على أن الأموات يعاملون كالحاضرين ، وإنما المعنى : أن أولياء الله عند الله -سبحانه وتعالى- آمنون وفي نعيم ، وهم في حياةٍ برزخية ، فغير صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضر في قبره ، يسمع من دعاه ويجيب دعاءه ، وإنما يسمع من يسلم ويرد عليه السلام ، لأن هذا هو الذي ورد به الدليل ، وهذا الحضور ـ لو سلمنا به ـ فهو حضور مع الموت ، فقد قال الله سبحانه : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا).

فإن قيل : هذه الآية في عُبَّادِ الأوثان .

فنقول: إن عُبَّادَ الأوثان يعتقدون أنها صورٌ للملائكة ، والملائكة قد تكون حاضرة ولكن لا اعتبار لهذا الحضور ، لأن العبرة في المخاطَب بالسؤال أن يكون حاضراً بالأسباب الظاهرة، نشاهده ونَسمَعه ، بخلاف أن نطلب من البعيد والغائب حياً كان أو ميتاً.

فمثلاً لو أن إنساناً يغرق وله شيخ حي غائب عنه فقال : أغثني يا سيدي فلان أو أدركني يا شيخ فلان ، لكان مشركاً بالله شركاً أكبر ، لأن الدعاء هو الطلب على الغيب ، والسؤال على الغيب ، أي يطلب من الغائب.

وذلك بخلاف ما إذا كان المطلوب منه حاضراً ، فمثلاً لو أن إنساناً يغرق فقال : أدركوني ، أغيثوني للحاضرين أو لمن يتوقع حضورهم بالأسباب الظاهرة ، فهذا طلبٌ مباح ، أما دعاء الجن والملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء ، فهذا هو الشرك الذي أنزل الله – عز وجل- فيه هذه الآيات ، لأن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون إنها بنات الله -سبحانه وتعالى- ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

إذن فالدعاء على الغيب، أو الطلب من الغائب ، شركٌ سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً ، فالأموات وإن كانوا أحياء عند الله – عز وجل- في برزخهم ، إلا أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل أنهم يسمعونه ، فهم يسمعون سلام من يسلم عليهم [5] ، ويسمعون من يسأل الله لهم العافية ويدعو لهم ، وإذا تأملنا في الدعاء للميت ، نجد أن الحي هو الذي يدعو للميت ، ولا يجوز أن يُسأل الميت قضاء الحاجات ولا أن يُدْعَى من دون الله[6].

والآيات في هذا كثيرة ، لأن هذا هو الشرك الذي وقع فيه عُبَّادُ الأوثان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وفي كل العهود.

2- الذبح لغير الله :

ومن الشرك الذبح لغير الله -تعالى- ، قال الله -تعالى- : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2)، فإذا كانت الصلاة لغير الله شركاً فالنحر لغير الله شرك أيضاً ، فالذبح تعظيماً عبادة من العبادات ، تَعَبَّدَنَا الله – عز وجل- بها ، فقد قال -تعالى- : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام : 162-163)، (وَنُسُكِي) أي: ذبحي ، على أحد الوجهين، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَعَنَ الله مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ) [7].

فمن يذبح لغير الله -سبحانه وتعالى- مُعَظِّماً لهذا الغير، فقد جعل لله -عز وجل- شريكاً في نسكه، واللام في لغير الله المقصود بها مُتَقَرِّبًا مُعَظِّماً، وإلا فقد يقول العبد: أنا ذبحتُ للضيف، يقصد لأُكْرِمَ الضيف وأطعمه، أمَّا الذبح الذي هو شرك فهو ما كان بقصد التقرب والتعظيم لغير الله – عز وجل- ، ولذلك فلا بد من اعتبار أمر النية[8]، فالذبح للقبور والذبح للجن لا يخرج عن العبادة بحال ، كطلب السحرة والكهنة ممن يذهب لهم لعلاج المس الشيطاني مثلا ذَبْحَ بعض الطيور وبعض الحيوانات ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله لمن مات عليه ولا بد أن تقام الحجة على من يفعلونه ، وذلك بتلاوة الآيات في قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [ الأنعام : 162 ]، وقوله -تعالى- : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2)، ويُبَين لهم معنى النُّسك .

والنحر والذبح باب واحد[9].

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (لَعَنَ الله مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ ) [10] يدل على أن من ذبح لغير الله فهو ملعونٌ عند الله – عز وجل- وذلك لأنه ارتكب أعظم الذنب، وهو الشرك بالله -تعالى-، وقد خلق الله لنا هذه الأشياء، فكيف ننوي التقرب بها لغيره؟

والذبح الشركي لغير الله يشمل أنواعاً منها:

1- ما ذُبِحَ بنية التقرب والتعظيم، كما ذكرنا .

2- ما سُمِّيَ عليه غير اسم الله -عز وجل- ، كمن يقول باسم المسيح أو باسم الصليب، أو باسم الولي الفلاني ونحو ذلك ، فهذا من الذبح لغير الله.

3- ما ذُبِحَ على النُّصب: كأن يأتي إلى النصب المنصوبة للذبح للأصنام عندها فيذبح عندها، فإذا أتى مثلاً إلى قدمي صنم يعبده المشركون أو عند صليب مشهور مثلاً يذبح عنده النصارى، فيأتي فيذبح عنده، فهذا ممن يَذْبَحُ لغير الله.

مسألة: لو أنّه ذكر اسم الله -عز وجل- على الذبيحة، لكنه ينوي بها التقرب إلى الجن وتعظيم الجن أو تعظيم الصالحين أو الأولياء، أو أنّه كان ناذراً لهم ذلك، كمن قال: يا سيدي فلان لو شُفِيَ مريضي فلك كذا من الغنم ونحو هذا، فهذا بلا شك قاصدٌ لتعظيم هذا الشيخ، معتقدٌ أنّه هو الذي قضى له حاجته، فهو من أجل هذا يكون ممن ذبح لغير الله، وتكون الذبيحة مما أُهِلَّ به لغير الله.

وهذا الفعل – كما قلنا – شرك، فإذا كان هذا الذابح قبل ذلك مسلماً، صار بهذا الفعل مرتداً، وبالتالي فالذبيحة لا تحل على أي حالٍ من الأحوال، ولو كان مشركاً قبل ذلك، فهو بذلك الفعل يزداد شركاً ـ فلا تحل ذبيحته، حتى ولو كان كتابياً من أهل الكتاب ، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، والخلاف في ذلك ضعيف جداً لمخالفته النصوص[11].

3- النذر لغير الله والحلف بغير الله:

ومن الشرك النذر للقبور والصالحين وكذلك الجن، والدليل على أن النذر عبادة من العبادات قول الله – عز وجل- : (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (البقرة:270)، فهذا دليلٌ على أن النذر عبادة وصرفها لغير الله يكون شركاً.

فهل النذر كالحلف؟ النذر لغير الله دائماً يرتبط باعتقاد ، ولذلك فهو ليس مما يجري على الألسنة ، بخلاف الحلف بغير الله الذي يقع من كثير من الناس بغير اعتقاد بسبب كثرة جريانه على الألسنة ، كقول الناس : والنبي ، أو شرف أبي ، ونحو ذلك مما تعود الناس أن يحلفوا به ، من غير قصد تعظيم المحلوف به كتعظيم الله -سبحانه وتعالى-.

وإن كان النذر والحلف في الأصل من بابٍ واحد ، لكن الحلف بغير الله غالباً ما يكون بغير القصد الذي ذكرنا ، وبالتالي فهو شركٌ أصغر ، أمّا لو حلف بغير الله مُعَظِّماً له كتعظيم الله أو أشد ، فهذا من الشرك الأكبر ، ومثال ذلك أن تتوجه اليمين على إنسان ، ويُطلب منه أن يحلف بالولي الفلاني ، أو النبي الفلاني ، لأنهم يعرفون أنه قد يحلف بالله كاذباً ، ولا يحلف بالولي أو النبي الفلاني إلا صادقاً ، فإذا حلف هنا بالمسيح أو النبي أو الولي فهذا من الشرك الأكبر ، وليس مجرد جريان على اللسان ، لأنّه عَظَّمَ النبي أو الولي أشد من تعظيم الله -سبحانه وتعالى- أو حتى تعظيماً مساوياً.

وفي بعض القبائل إذا توجهت اليمين يطلبون من الحالف أن يحلف عند قبر ولي معين عندهم ، وأن يحلف ويقول : بحق هذا الغالب الطالب ، فالولي هذا عندهم يغلب من يحلف به كاذباً ، وهو طالبٌ لأنه يطلب حق المظلوم ، فإذا حلف الحالف بالله ، قالوا : لا تحلف بالله ، بل احلف بحق هذا الغالب الطالب أو الشيخ الفلاني ، فهذا لا شك أنه من الشرك الأكبر ، لأنهم يطلبون الحلف بهذا الولي مُعَظِّمِين له كتعظيم الله أو أشد ، وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: … ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب ويحلف بشيخه وإمامه وَيَصْدُق ولا يكذب ، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله -تعالى- [12]، وقال أيضاً : … ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذباً [13]، فلا شك أن هذا من الشرك الأكبر أيضاً.

أما النذر فلا يكاد يقع فيه جريان على اللسان من غير قصد قضاء الحاجة من الولي أو من الجن أو نحو ذلك، ولو حدث وجرى على اللسان من غير قصد قضاء الحاجة، كما يقال : نَذْرٌ عليَّ كذا لأم هاشم أو البدوي أو الدسوقي أو أبي العباس ، من غير قصد أنهم يقضون له شيئاً لكان حُكمه حُكم الحلف ، ويكون شركاً أصغر ، لكن الذي يقع في هذا المقام أن من ينذرون للأولياء أو الجن ، يعتقدون أنهم يقضون لهم حاجتهم ، فيكافئونهم على قضاء الحوائج بهذا النذر ، ولو كان ذلك على سبيل الوساطة بينهم وبين الله – عز وجل- ، كأن يقول له : يا شيخ فلان لو شفى الله مريضي فلك كذا وكذا فالشيخ ـ إذن ـ هو الذي توسط ، وقضى له حاجته ، فهو يكافئه على هذه الوساطة وقضاء الحاجة ، فطالما صرف له العبادة ، واعتقد أن له منزلة عند الله تجعله يدبر الأمور فهذا من الشرك الأكبر .

وكما سبق أنّه : إن اعتقد أن جاه فلان معناه أن الله -سبحانه وتعالى- يجعل له تدبير الأمور والكون فهذا من الشرك في الربوبية .

فالفرق بين الحلف والنذر : أن النذر لغير الله الأغلب فيه أنه شركٌ أكبر ، أما الحلف بغير الله فالأغلب فيه أنه شرك أصغر ، وهما من باب واحد ، لكن الغالب في الذي يقع أن الحلف بغير الله يمكن أن يكون جرياناً على اللسان من غير قصد تعظيم المحلوف به ، وأما الغالب الذي يقع في النذر أن يكون فيه قصد تعظيم المنذور له واعتقاد أنه يملك قضاء الحاجات .

حكم الحلف بالمصحف :

لو قصد الحلف بالقرآن : فهو حلفٌ بصفةٍ من صفات الله -تعالى- ، فالقرآن كلام الله ، والحلف بالله أو بأسمائه وصفاته ومن ضمن صفاته كلامه هو حَلِفٌ مشروع ، فيجوز الحلف بالله أو بكتاب الله أو بكلام الله أو بالقرآن أو بعِزة الله أو بعظمة الله ، أو بحياة الله فكل هذا حلف بالله – عز وجل- وبصفاته .

لكن لو قصد الحلف بأوراق المصحف فلا يجوز لأنه حلف بغير الله [14]، إذ الأوراق مخلوقة بلا نزاع.
4- نسبة علم مفاتيح الغيب وتصريف الكون لغير الله: وهذا النوع في الحقيقة تابع للشرك في الأسماء والصفات ، وذكرناه هنا لانتشاره ، ولأنه مقدمة للشرك الأكبر في الألوهية ، وهو نسبة علم الغيب للأنبياء أو الأولياء أو الكهان أو العرافين أو المنجِّمين ، واعتقاد أنهم يصرفون الكون ، فهذا شركٌ في الربوبية والأسماء والصفات ، فنسبة علم مفاتيح الغيب للأنبياء والأولياء شرك في الصفات ، فإنه يعتقد لهم علم الله ، فقد قال الله -تعالى- : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59)، فمن اعتقد أن غير الله يعلم علم مفاتيح الغيب ، فقد جعل لله نداً في الأسماء والصفات ، وذلك مقدمةٌ لصرف العبادة لغير الله ، فهم يعتقدون أن الولي الفلاني أو النبي الفلاني يسمع كل شيء وهو غائب ، ويعلم كل شيء ، وعندهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم علم الساعة ، والله عزَّ وجلَّ قال : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34)

، فمن ادَّعى لمخلوق علم الساعة فقد كَذَّب بالقرآن ، ومن اعتقد أن مع الله – عز وجل- مَنْ يُصَرِّفُون الكون ، فقد أشرك في الربوبية ، وقد جعل لله أنداداً في الأسماء والصفات والربوبية ، فهذا شركٌ في الربوبية ، فإذا أُضِيفَ إليه اللجوء إليهم ودعاؤهم ليضروا أو ينفعوا ، فقد زاد فيه شركاً في الألوهية ، كمن يأتي السحرة والكهنة ليسحروا له ، أو يُخبروه عن مستقبله ، وقد قال -تعالى-: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(البقرة: من الآية102)، وهذا دليلٌ على أن السحر الذي يُتَعَلَّم من الشياطين كفرٌ .

[1] أكثر الناس إنما يعبدون الملائكة والرسل والأولياء ظناً منهم أن ذلك يقربهم إلى الله عز وجل.

[2] يصرفون العبادة لغير الله ويسمونه توسلاً، وشتان بين هذا التوسل الشركي وبين ما يجوز من التوسل الشرعي فتنبه .

[3] رواه البخاري (4920) .

[4] رواه الترمذي (3095) وحسنه الألباني .

[5] فقد ورد الخطاب لهم بذلك ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى المَقْبُرَةَ ، فَقَالَ : (السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ) [ رواه مسلم (249 ، 974) ، وأبو داود (3237 ، 5172) ، والنسائي (150، 2039) ، وابن ماجة (1546 ، 4306) ، وأحمد (7933، 8661 ، 23904) ، والموطأ (60) ] .

[6] إن من أهل العلم من قال بسماع الأموات، ولكن هذا لا يجيز ولا يبيح دعاءه من دون الله لأن الدعاء عبادة لا تصرف إلا لله ، وهؤلاء الأموات لا يملكون ضراً ولا نفعًا ، راجع التعليقات السنية للمؤلف.

[7] رواه مسلم (3657 ، 3658 ، 3659) ، والنسائي (4346) ، وأحمد (831، 908 ، 1238 ، 1779 ، 2677 ، 2763) وفي مواضع أخرى من المسند.

[8] بعض العلماء المتأخرين قالوا: ما يُذبح للسلطان عند قدومه فهو مما أُهِلَ به لغير الله ، والصحيح أنّه يُنْظَرُ لدِلالة الحال: هل يذبحه إراقةً للدم أمام السلطان ؟ أم يذبح له لكي يُكْرِمَه ويُطْعِمَه؟ فهذا هو الفرق المهم جداً ، كما يقع في بعض مجالس الأعراب أنه إذا أتاهم ضيف فلابد أن يذبحوا ، فهل المقصود بهذا إكرام الضيف بشيء يُذْبَحُ له ؟ أم تقرباً له وتعظيماً ؟ فهذا فرق مهم لابد من التبيين فيه حتى لا يحدث فيه خَلْطٌ ، فإن كثيراً من الناس إذا أتى له ضيف فلابد أن يذبح له ، ولو أتى بلحم آخر دون أن يذبح لكان تقصيراً في حق الضيف ، أما إذا كان من باب التعظيم له والتقرب بإراقة الدماء فهذه هي العبادة .

[9] لأن السنة في الإبل النحر قياماً مقيدة اليد اليسرى ، تقوم على ثلاثة قوائم ويطعن في اللَّبّة بسكين قصير أو حربة ونحوها ، واللبة موضع النحر في أصل الرقبة وأما الذبح فهو للبقر والغنم وهى مُضْجَعَةٌ.

[10] سبق تخريجه صـ 117.

[11] بعض العلماء يقولون في ذبائح أهل الكتاب: كُلْ منها ولو قال باسم المسيح ، أو باسم الصليب ، وهذا خلافُ نَصِّ كتاب الله -تعالى- ، وخلافُ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الواضحة النص ، ولذلك فهذا قولٌ ضعيف ، وخلافه غير مُعْتَبَر ، وحجتهم أن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب وهو -تعالى- يعلم أنهم يذبحون لغير الله.

والرد على ذلك: أن الله تعالى أحلَّ لنا ذبائحهم التي أحلَّها لهم ، ولم يُحِلُّ لنا ذبائحهم التي حرَّمها عليهم ، وقد حرَّم الله -تعالى- في كل الشرائع عبادةَ غير الله ، والشرك لم يُحِلَّه الله -تعالى- أبداً ، والذبح لغير الله -تعالى- شرك ، وما أباح الله -تعالى- لهم الخنزير ، وهو يعلم أنهم يستحلون الخنزير ، فهل دخل الخنزير في عموم قوله تعالى : (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)(المائدة: الآية5)، بالقطع لم يدخل ، فدلَّ ذلك على أن طعام الذين أوتوا الكتاب الذي أحلَّه الله لهم في شرعهم الذي أنزله الله حِلٌّ لنا ، وقد قال -تعالى- : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)(الحج: من الآية34) ، فكل الأمم شرع الله لها أن تذكر اسم الله -تعالى- على الذبيحة ، لأن هذه الذبيحة نعمةٌ من الله -تعالى- وإنما أذن الله لنا في إزهاق هذه الروح لمنفعتنا ، فإذا لم نستأذن الربَّ ولم نذبح على ما أمرنا -تعالى- فقد أُزْهِقَتْ هذه الروح بغير إذنٍ منه -تعالى- ، وبالتالي فهي ميتةٌ ، والنصارى وغيرهم يستحلون الميتة ، ولا يرون لزوم الذبح ، فهل هذا ضمن قوله -تعالى-: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)(المائدة: من الآية5)، وقد حرَّم الله -تعالى- أَكْلَ الميتة على اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ، فاليهود والنصارى مُتَعَبَّدُون بالذبح والتسمية ومُتَعَبَّدُون بتحريم الميتة، وأنه لا تَحِلُّ الميتة والمُنْخَنِقَة ، ومعلومٌ أن النصارى يعتقدون لزوم حكم التوراة لهم ، والتوراة واضحةٌ جداً في التشديد في التزام شروط الذبح والتسمية ولزومهما ، ولكنهم لا يلتزمون هذه الشروط في الذبح ، واليهود هم الملتزمون بذلك ، ولذلك لو أن إنساناً في بلاد أوروبا أو أمريكا ، ويريد أن يأكل طعاماً مذبوحاً فإنه يأكل طعام اليهود.

فالميتة والمُسَمَّى غير اسم الله عليه أو الذي أُهِلَّ به لغير الله لا يدخل في عموم قوله -تعالى-: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)(المائدة: من الآية5) ، فالذي يحل من طعامهم هو ما أحلَّه الله لنا ولهم.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأصل في ذبائحهم الحِل وأن الأصل أنهم يذبحون وأنهم يسمون ، فنحمل ذبائحهم على الأصل فيها ، والبعض يقول : هم أهل كتاب فلا نسأل عن ذلك .

لكن الكلام هنا في هذه المسألة فيما إذا عرفنا أنهم ذكروا غير اسم الله ، أو عرفنا أنهم لم يذبحوا ، وأنها ميتة ، فهذا نقول فيه : الخلاف فيه غير سائغ ، أما إذا لم نعلم فهذا هو الذي فيه الخلاف السائغ ، ونرى أنّه لا يجوز الأكل من هذه اللحوم المستوردة إلا إذا علمنا أن الذبح قد تم على ما شرع الله -تعالى- لأن الأصل في الذبائح الحرمة ، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي المَاءِ فَلا تَأْكُلْ) [ رواه البخاري (175 ، 2054 ، 5475 ، 5476) ، ومسلم (1929) ، وأبو داود (2847 ، 2848 ، 2849) ، والترمذي (1469 ، 1470) ، والنسائي (4263 ، 4264 ، 4268 ، 4269) ، وابن ماجة (3208) ، وأحمد (17781 ، 17794 ، 18879 ، 18893 ، 18901) ، والدارمي(1981) ] .

فجعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَوْنَكَ لا تدري هو العلة في المنع ، فالأصل المنع عند الشك ، قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ : فِيهِ بَيَانُ قَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ , وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الشَّكّ فِي الذَّكَاة المُبِيحَة لِلْحَيَوَانِ لَمْ يَحِلّ لأَنَّ الأَصْل تَحْرِيمه , وَهَذَا لا خِلَاف فِيهِ [ شرح صحيح مسلم (13/77) ] ، والبعض الذي يُجَوِّز أكل اللحوم المستوردة يقول إن الأصل في ذبائح أهل الكتاب أنهم يلتزمون الذكاة المبيحة للحيوان ، والواقع أنهم في أوروبا وأمريكا لا يلتزمون بشيء من ذلك ، بل إن الذبح محرمٌ في بعض البلاد ، وإذا ذبحوا لا يُسَمُّون شيئاً ولا يتعبدون بهذا الذبح ، بخلاف الآتي من عند اليهود لأنهم يتعبدون بالتسمية والذبح وعندهم شروط أشد من بقايا الآصار والأغلال.

فهذا المستورد المجهول لو أن مسلماً قال : أنا أشرفت على ذبحه ، أو توليتُ ذبحه ، أو أرسلتُ مَن ذبحه ، ونحن نعلم مَنْ هذا المسلم فهو حلال ، أما إذا وجدنا ورقة مجهولة ملصقة مكتوبٌ عليها ذُبِحَ على الشريعة الإسلامية فلا ندري من قال هذا ومن كتب الورقة ومعروف أن هذه البلاد فيها الملحد وفيها الكتابي ، وفيها الوثني ، وفيها من لا دين له بالكلية ، فهذا الكلام المكتوب لا يدل على أن الذابح من أهل الذبح ، أو أن الذبح كان شرعياً ، ولا يدل كذلك على أنهم ذكروا اسم الله عليه.

أما إذا كان الأصل فيهم التسمية كالمسلمين فإن طعامهم يؤكل ولو لم نعلم أَسَمُّوا اللهَ أم لا ، ونقول : سَمُّوا أنتم وكلوا ، كما في حديث عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (سَمُّوا الله عَلَيْهِ وَكُلُوهُ) [ رواه البخاري (2057 ، 5507 ، 7398) ، وأبو داود (1894) ، والنسائي (4463 ، 2829) ، وابن ماجة (3174) ، ومالك (1054) ] ، أما إذا كان عندهم التبديل إلى درجة أنهم إذا سموا يسمون المسيح ، أو يسمون الصليب ولا يسمون الله فلا نأكل حتى نعلم أسموا الله أم لا ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ [ رواه البخاري (2488 ، 2507 ، 3075) ، ومسلم (1968) ، وأبو داود (2821) والترمذي (1491) ، والنسائي (4403 ، 4404 ، 4410) ، وأحمد (15379 ، 15386 ، 16810 ، 16812) ] ، فمفهوم المخالفة أن من لم يذكر اسم الله فلا تُؤكَلُ ذبيحته ، وكذا ما لم ينهر الدم.

والذي نتكلم عليه هو متروك التسمية عمداً ، أما متروك التسمية نسياناً ففيه خلاف بين العلماء أيضاً للمسلم ، والأكثر على حِلِّ متروك التسمية نسياناً لأن المسلم نيته تكفيه ، فقد ذكر اسم الله بقلبه ـ والله أعلى وأعلم ـ حين نوى الذبح لله ، فالصحيح أن تُؤكل الذبيحة ، والقول الآخر أن متروك التسمية عمداً أو سهواً محرم وأنه لا بد أن يُسمي الله بلسانه ، والأول أقرب ، أما متروك التسمية عمداً فهذا لا تحل ذبيحته.

فائدة : لا تُقبل ذبيحة أعيادهم لعدم إقرارهم على إقامة العيد البدعي أو الشركي.

والذبح الآلي بمنزلة إسقاط السكين ، فالذي يضغط على الزر بمنزلة المُسْقِط للسكين ، فلو سَمَّى اللهَ وضغط على الزر فقد أجزأ ، ولا تكفي التسمية من جهاز تسجيل بل لابد أن تكون من الذابح ، ولا يصح أن يسمي واحد ويذبح آخر ، بل الذابح نفسه هو الذي يسمي .

[12] الرد على البكري (2/678) .

[13] مجموع الفتاوى (15/49) .

[14] والحلف بـ عهد الله له احتمالان :

1- إما بالعهد الذي أخذه الله علينا فهو من كلامه -تعالى-.

2- أو يكون قاصداً ما فعله العبد من العهد مع الله ، فهو فعل العبد فلا يجوز الحلف بمخلوق.

والحلف بـ أيمانات المسلمين : الأصل في المسلمين أنهم يحلفون بالله ، فأيمان المسلمين حلفٌ بالله ، لأن أيمان المسلمين هي الحلف بالله ، لأنهم موحدون مؤمنون يحلفون بالله -تعالى-.
www.salafvoice.com منقول

بارك الله فيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.