استنادا إلى قائمة طويلة من المبررات، قد يلجأ الوسط الطبي إلى الاستعانة ببعض الحقائق العلمية في سبيل تبسيط وتسهيل ما هو بالأصل صعب ومعقد، و«الجائحة» العالمية الحالية لوباء إنفلونزا الخنازير أحد الامتحانات الصعبة للكثيرين في الوسط الطبي وخارجه، ولمن هم بالأصل معنيون بالعمل الطبي المباشر، ومن لا شأن لهم به بشكل مباشر، والسبب هو تلك الحقيقة التي مفادها أن «الكل» أصابته «شظايا» ظهور هذه المشكلة الصحية العالمية.
وبغض النظر عن الهدوء وتمالك الأعصاب وإحسان التدبير الذي تحلى به البعض، أو ذاك الهلع والتهويل والعشوائية في التصرف، الذي سيطر على آخرين، فإن إنفلونزا «إتش1 إن1»، أو ما يُعرف بإنفلونزا الخنازير، انتشرت في أصقاع الأرض قاطبة، ولم يردع ذلك حتى اليوم أي وسيلة تبنتها الأوساط الطبية أو غيرها.
ولأن انتشارها بين المجتمعات أمسى حقيقة اليوم، يكون النقاش والتدبير أجدى وأكثر فائدة، حينما يتجه نحو الاستحقاقات المستقبلية القادمة.
أربعة جوانب مهمة
والأمور الأربعة المهمة، في جانب هذه الاستحقاقات القادمة لا محالة هي:
أولا، المناعة الطبيعية والمناعة المُصنعة لهذا الفيروس عبر ما يُعرف بـ«حفلات إنفلونزا الخنازير».
وثانيا، التعامل العالمي مع لقاح إنفلونزا الخنازير عند طرحه للاستخدام.
وثالثا، مدى استجابة الفيروس للأدوية المتوفرة، وهناك حاجة مُلحّة لفهم مدى استمرار استجابة الفيروس للأدوية المضادة للفيروسات المتوفرة والمُستخدمة في الوقت الراهن لمعالجة حالات الإصابة بإنفلونزا الخنازير. وما يفتح هذا الموضوع على مصراعيه هو رصد الأوساط الطبية في بلدان مختلفة ومتباعدة جغرافيا لحالات يُصنف هذا الفيروس فيها بأنه مُقاوم لمفعول عقار «تاميفلو».
ورابعا، نوعية التعامل الطبي مع مجموعات معينة من الناس، أي المجموعات التي تُصنفها الأوساط الطبية بأنها «أكثر عُرضة للضرر جراء الإصابة بإنفلونزا الخنازير»، وهي ما تشمل مرضى القلب، ومرضى الجهاز التنفسي، والحوامل، والأطفال، وكبار السن، ومرضى السكري، ومرضى السرطان، ومرضى ضعف الكبد أو الكلى أو تدني مستوى مناعة الجسم..
بين الإنفلونزا الموسمية والخنازير
ومن المفهوم أن معرفتنا بالإنفلونزا الجديدة من نوع «إتش1 إن1» غير مكتملة، لأنه ببساطة مرض جديد، وكل ما يُقال عن هذا الفيروس في جانب سلوكه المرضي إنما هو مبني على ملاحظات أولية من نظرة لأولى الجولات البشرية في صراعها مع هذا الفيروس الجديد على حلبة الأمراض.
ولقد لخص الباحثون من المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية CDC، ذلك بقولهم: «إننا لا نزال نتعلم حول شدة مرض إنفلونزا «إتش1 إن1»، وفي هذا الوقت لا تُوجد معلومات كافية لتوقع كيف ستكون شدة الانتشار الوبائي لهذه النوعية من الإنفلونزا، وذلك من نواحي الاعتلال المرضي للمصابين والوفيات، أو كيف يُمكن المقارنة فيما بينها وبين الإنفلونزا الموسمية».
وأول الأمور التي يستخدمها الوسط الطبي في طمأنة عموم الناس، وتهدئة روعهم ومساعدتهم على عدم الانسياق وراء فزع لا طائلة منه، هو التذكير بمدى تسبب هذه النوعية الجديدة بالوفيات، ومما يُقال، إن من المعلوم تسبب الإنفلونزا الموسمية المعروفة بحوالي 500 ألف وفاة في أرجاء العالم كله، في كل سنة.
وإن الإنفلونزا الجديدة، وفي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، لم تتسبب إلا بما هو أقل من 500 حالة وفاة، وهذه المعلومة وإن كانت سليمة 100%، إلا أنها بداهة أو بشيء قليل جدا من التفكير لا تعني البتة أن هذا النوع الجديد من إنفلونزا الخنازير أقل تسببا بالوفيات من فيروسات الإنفلونزا الموسمية.
ذلك أن الإنفلونزا الموسمية مكونة من ثلاث فصائل كبيرة من الفيروسات التي تشمل كل فصيلة منها عددا من الفيروسات الفرعية، والمقارنة لا تكون بين واحد ومجموعة، هذا بالإضافة إلى أن مقارنة القوة والتأثير لا تكون فيما بين فيروس جديد لا يزال يشق طريقه بصعوبة في عالم «الأضواء»، وبين منْ ضرب أطنابه من مئات السنين في عالم الأمراض البشرية.
المناعة و«حفلات» الإنفلونزا
وما قد يراه البعض طريفا، ويراه غيرهم بخلاف ذلك، هو ما بدأت الأسئلة تنهال حوله في جانب مدى إمكانية «الاستفادة» البشرية من الأشخاص الذين أُصيبوا بإنفلونزا الخنازير، والتعبير هو عن ما يُسمى بـ«حفلات إنفلونزا الخنازير» «Swine flu parties»، والتي هي عبارة عن تجمع أشخاص سليمين مع شخص أُصيب بإنفلونزا «إتش1 إن1» في محاولة لاكتساب العدوى بالفيروس الضعيف لديهم.
وهذا الانتقال للفيروس الضعيف من الشخص الذي أُصيب من قبل، إلى شخص سليم سيُؤدي إلى الإصابة بحالة خفيفة من إنفلونزا الخنازير، وبالتالي هي أشبه بتلقي لقاح يحتوي على فيروس ضعيف ، ومن ثم تنشأ لدى الشخص الجديد مناعة من المرض.
وكانت إدارة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية بالولايات المتحدة قد أعلنت صراحة عدم تبينها النُصح بحضور حفلات إنفلونزا الخنازير هذه، كوسيلة للحماية المستقبلية من الإصابة بالمرض، والسبب أنه لا يُمكن التكهن بما قد يحصل لدى الشخص السليم حال دخول الفيروس الضعيف إلى جسمه، حتى لو كان هذا الفيروس ضعيفا ولم يتسبب بمضاعفات صحية خطيرة على الشخص المصاب أولا.
هذا ولا تزال الإدارة تتبنى النصيحة بابتعاد الشخص المُصاب عن مخالطة الغير لمدة سبعة أيام من بعد ظهور أعراض الإنفلونزا لديه، أو حتى انقضاء 24 ساعة بعد زوال كامل الأعراض المرضية عنه.
إصابات لافتة للنظر
ومع هذا، فهناك جانب آخر ملفت للنظر في سلوك الإصابات بإنفلونزا الخنازير، وهو أن أكثر من 50 في المائة من الإصابات بهذا النوع الجديد تطال منْ هم ما بين 5 و50 سنة من العمر، وأنه أقل إصابة لكبار السن وللأطفال الصغار جدا.
وهو ما يختلف عن الذي يجري مع الإنفلونزا الموسمية، ومع هذه الملاحظة، هناك تشابه في سهولة إصابة الحوامل وذوي الأمراض المزمنة في القلب والرئة وغيرهما، وارتفاع احتمالات الوفاة جراء ذلك، في ما بين إنفلونزا الخنازير والإنفلونزا الموسمية.
ومما لاحظته الأوساط الطبية أنه ليس ثمة ارتفاع في إصابات منْ تجاوزوا عمر 65 سنة بنوعية إنفلونزا الخنازير، مقارنة بالإنفلونزا الموسمية. وأحد التعليلات هو وجود مناعة طبيعية ضد هذا الفيروس الجديد لدى مجموعات من كبار السن.
وتحديدا تقول مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية بالولايات المتحدة: في البدايات كانت التقارير الطبية تشير إلى أن الأطفال الصغار ليس لديهم مناعة طبيعية ضد هذا الفيروس الجديد، وأن قلة من الأشخاص الذين دون عمر 60 سنة لديهم مناعة طبيعية هذا الفيروس الجديد.
إلا أن الأبحاث التي أجرتها المراكز أظهرت أن حوالي ثُلث البالغين الذين تجاوزا سن 60 سنة لديهم أجسام مضادة لإنفلونزا «إتش1 إن1» antibody to novel H1N1 flu. ولكن لا يُعرف ما مصدر وجود هذه المناعة الطبيعية لهذه النوعية الجديدة من الفيروسات، ولا ما الذي يُوفره لهم من حماية وجود هذه الأجسام المضادة في دمائهم.
وما يتحدث عنه البعض في الوسط الطبي بإيجابية، كنوع من الرحمة، أن الموجات الوبائية لانتشار الأمراض، وإصابة البعض دون غيرهم في المجتمعات البشرية، سيُؤدي مع الوقت إلى نشوء حالة من «مناعة القطيع». أي نشوء مناعة لدى الأشخاص السليمين جراء مخالطة أشخاص أُصيبوا من قبل بالفيروس المتسبب بإنفلونزا الخنازير، وإذا ما تحولت الأمور نحو هذا المسار الجميل، تكون الأزمة قد انفرجت إلى حد كبير.
صراع على اللقاح
لا تزال هناك ضبابية في الموقف حول «لقاح» إنفلونزا الخنازير المتوقع «توفره» في الخريف المقبل، وما يُثير التساؤلات المشروعة هنا، مدى التأكد من فاعلية هذا اللقاح الذي ربما من غير الممكن توفر عنصر «اختباره» والتأكد من فاعليته، أسوة بما تمر به أنواع اللقاح المُنتجة عادة لمقاومة عدوى الإصابة بالأمراض الميكروبية.
وما حصل في سبعينيات القرن الماضي من آثار جانبية للقاح مماثل، لا يزال حاضرا في ذهن الكثيرين بالوسط الطبي.
والجانب الآخر في شأن اللقاح، هو ما بدأت تتحدث عنه الأوساط الطبية والإعلامية وغيرها، تحت عنوان «حرب اللقاح» المقبلة، ذلك أن هناك ضغوطا من مصادر شتى على شركات إنتاج اللقاح لتوفير كميات تُقدر بمئات الملايين من عبوات اللقاح الذي يحتاج المرء لأخذ جرعتين منه، ومع تركز شركات إنتاج اللقاح الخاص بالإنفلونزا في دول أوروبية محدودة، فإن دولا كبريطانيا والولايات المتحدة، على سبيل المثال، ستواجه صعوبات بشكل ما في تأمين الكميات اللازمة لها.
وذكر هاتين الدولتين تحديدا سببه أن بريطانيا لا تتوفر على أراضيها أي إمكانيات لإنتاج اللقاح، وستعتمد كليا على استيراده، أسوة باعتمادها الكلي على استيراد لقاح الإنفلونزا الموسمية. أما الولايات المتحدة، فما لديها من إمكانيات سيكون كافيا فقط لتأمين 20 في المائة من احتياجاتها لكميات اللقاح.
ولنا أن نتخيل حال بقية دول العالم إذا علمنا أن العقود التي تمت بين الدول والشركات ستخضع لمعايير غير تجارية إذا ما كان ثمة «وضع طبي إنساني حساس» في انتشار المرض وارتفاع نسبة الوفيات داخل الدول الأوروبية المنتجة للقاح.
وهو ما قاله صراحة الدكتور مايكل أوسترهولم، مدير مركز أبحاث الأمراض المعدية بجامعة مينسوتا: إذا ما كانت هناك حالة شديدة من انتشار المرض، فإن الدول ستتجه نحو إبقاء ما لديها من لقاح لتلقيح مواطنيها.
جزاكي الله كل خير