أنا لست عانسا، وتاريخ ميلادي في العاشر من حزيران عام 1980 يمحي عني العنوسية، ولا يشير إني عانس بالزمن فالعنوسة في مجتمعنا العربي تبدأ أحيانا بعد الأربعين من العمر، وأنا لم ابلغ هذا الرقم لكن إحساسي بالعنوسة المبكرة هو الذي قادني إلى العنوسة.
وأنا لست عانسا بسبب مظهري الخارجي، فأنا أجمل فتيات الحي وأكثر فتنة من فتيات الكرادة مريم و فلسطين، وراغبة خاتون وبغداد الجديدة …. هادئة، محبوبة، اجتماعية، أنيقة، طويلة القامة، رشيقة الجسم، شعري أسود، طويل، يتدلى على كتفي، عيناي زرقاوان بلون السماء والبحر.
ولست عانسا لعيب خلقي أو عاهة مستديمة، باختصار جمالي الطبيعي كفيل بأن يجذب نصف رجال الكرة الأرضية بما فيهم الملوك والكهنة والزعماء وأصحاب الشهادات والكفاءات العلمية النادرة وقادة الميدان من العسكر وحتى رعاة الغنم في البوادي.
ليس مهماً أن أذكر لماذا صرتُ عانسا، وكيف طمست قدماي في بحر العنوسة. وأنا لست أول عانس، ربما أكون العانس رقم عشرة أو المائة أو المائة والخمسين، وربما المائة بعد الألف، لكن لن أكون العانس الأخير في هذا العالم المتلئ بالتناقض والأعاجيب. وليس مهماً أن أبين أن كانت العنوسة لحقت بي من جراء نزوة شبابية أم إن مشيئة الرحمن هي التي أرادت أن أكون هذا الكائن البائس: نصفه ميت، ونصفه الآخر شبه حي، أم أن العنوسة حالة قيدت بي ولاصقت بأذيالي منذ أن درج اسمي في ذلك الوح المحفوظ. لقد أصبحت عانسا وهذا يكفي وكل شي عداه لن يقدم ولن يؤخر.
وإنا اليوم عانس وكل الذين حولي من البشر والكائنات الحية والأشباح والأطياف تتعامل معي على هذا الأساس. كائن نفد صلاحيته، وإذا كان الآخرون ينظرون لي نظرة أخرى لسبب ما في نفس يعقوب، فأنا أرى نفسي في مرآة البيت ومرآة روحي عانسا انتهت صلاحيتها لبعض الشي أن لم أقل لكله.
ومثل أي عانس، تعشعش فوقه الهموم والأحزان بسبب وبدونه، استفيق باكراً بعد أرق ليلٍ طويل، تخنقني العبرة وأشعر أن العالم حولي مظلم كظلام اليل الشتاء الدامس، الإحساس بأني عانس أحساس مرّ كفيل بأن يسلب مني نعمة النوم والراحة والسعادة.
دبابات أميركا، همراتها، مصفحاتها، راجمتها، أساطيلها، ناقلات جندها، عرباتها وهي تصول وتجول في شوارع بغداد للمرة الأولى كلابها المتوحشة وهي تلسع أجساد المعتقلين المقيدّة بالسلاسل، الرأس المعبأة داخل الكيس الأسود، جنودها المدجون بالأسلحة والرعب، صور انتهاكاتها في السجون، طائرتها التي ترمي الصواريخ على البيوت والعمارات، الجثث العفنة التي تلقى في الترع ومجاري المياه وساحات القمامة كانت الشرارة الأولى التي أيقظت إحساسي بالعنوسة ولدت لديّ أحساسا أزليا لم يفارقني أحساس بأني ولدتُ عانسا، وسأبقى عانسا، أموت عانسا، وأبعث عانسا.
كلما وقعت عينٌ من عينيَّ على همرٍ يركل بعجلاته بلاط قلبي وإسفلت ال في مدينتي الآيلة للعنوسة، يرسخّ الشعور وينميّ الإحساس في رأسي بأني عانس فعلاً وأن التخفي خلف أوهام الشبابية لم يعد يجدي نفعاً.
قبل الاحتلال، بعشرة أعوام، خمسة عشر عاماً، كان يفترض أن أصبح عانسا وأعامل معاملة العانس، لكني لسبب لازلت أجهله لم يحدث ذلك، لما لم أشعر بأني عانس، وبأني فاقدة الأهمية والجدوى والصلاحية في تلك السنوات التي كان الوطن محاصراً، معزولة عن أصدقائه وجيرانه، ربما أن الأوطان هي التي تمنح صبيانها وبناتها من الشباب الإحساس بالعنوسة والإحساس بالشبابية والأنوثة. الوطن حين يحتل وتدوس أرضه أساطيل جنود المحتل، هو فقط يولدّ الشعور بالعنوسة المبكرة.
بعد هذا السيل من الأعوام، أجزم أن ستيفان ذلك الجندي الأميركي الأسود الذي كان ضمن تلك الثلة من الجنود الذين داهموا بيتنا في منتصف ليل شتاء ماطر بحثاً عن إرهابي اسمه حسون، صار عنده قناعة تامة بأنه إذا وقع في يد أي رجل عراقي فلا مفر من أنه سيدفن حياً وسيحرق جسده بالتيزاب وبالبنزين الذي يجاهد سائقو العراق بالحصول عليه بعد أيام من المشقة والعناء في النوم على الكراسي الخلفية للسيارة أو مفترشين ال، وسيعلمُ ذلك ستيفان الشقي أن أسباب نقمة الرجل عليه لا تتوقف عند حدود احتلال وطن، وتدمير حياة ورغبات وأحلام.
أجزمُ أن ستيفان ذلك المرتزق الأميركي سيكون واثقاً من أن رؤيتهم في شوارع بغداد أنعشت الإحساس بالعنوسة، وأفقدت امرأة مثلي كل رغباتها في الحياة والحب والشراكة والأنوثة.
سبع سنوات من الاحتلال ولدتّ سبعمائة عاماً من الإحساس بالعنوسة والشل وبالاجدوى وتلاشي الشعور بالحب والرغبة في الشراكة والارتباط.
لن أعود شابة يتراكض خلفي الشباب، لقد قادني الإحساس بالعنوسة إلى العنوسة فعلاً فلم أعد أجدي نفعاً، وكل الأزهار التي سيفرشها ستيفان ورفاقه المحتلون دمي ودماء الآلاف من أمثالي لن يمحي عني وعن الشاعرات بالعنوسة هذا الإحساس البشع، الميت.
هل أدرك ستيفان المحتل ماذا يعني أن تراود امرأة مثلي إحساساً بأنها عانس وبأنها لن تكون موضع اهتمام من قبل أي رجل كلما وقعت عيناها على رؤيته وهو مدج بالسلاح، ينهر ويصرخ ويزعق، محاطا بالعشرات من الآليات المزودة بأحدث الأسلحة، يقتل ويستبيح وينتهك ويدمر الأحلام والرغبات والبنيان.
مثل ورد يذبل في السنا دين المرصوصة في (طارمة) البيت وسياج الشرفات عطشاً. مثل أوراق أشجار النارنج والتين والعنب والبرتقال والتوت في حدائق بيوتنا وهي تصفر وتذبل جراء الإهمال ونقص العناية والماء والضوء، بعد أن ترك الناس بيوتها وهجرت أوطانها هرباً من الموت المحتوم المفروض على الرجال والصبيان، خوفاً من جحيم شعور بنات العائلة بنتاً إثر بنت بالعنوسة المحتومة.
منذ سبع سنين وباب منزلنا لم تطأه قدما رجل، أوصده جنود الاحتلال بالمفتاح حينما أوصدوا باب قلبي وجعلوني عانسا رغما عني. باب لا يقترب منه الرجال، أبواب موصدة، لا يفتحها أحد، لا يطرقهٌا أحد.
العنوسة ليست وراثة في عائلتي، جدتي منال توفيت بعد عمر ناهز المائة وخمس سنوات، وكانت تتمتع بصحة موفورة وظلت تشعر أنها شابة حتى اجتازت التسعين من عمرها. والبنات في عائلتي تزوجن وهنّ في السن السادس عشر، وصرنّ أمهات وبعضهنّ أصبحن جدات.
كانت الجدة سعدية، وهي صديقة حميمة لجدتي وتصغرها بسنوات، تردد دائماً أن الزوج الصالح هو الذي يحافظ على شبابية زوجته و لا تشعر بالكبر إلا حين تصادف رجلاً يريها نجوم الظهر في حياتها، وتقول إن لا تكبر لكنها لن تُعنس أو تشعر بالعنوسة. فمهما بلغت من العمر ستجد من يقطفها من العنوسة وتكون زهرة قلب أي رجل.
مات الجدة سعدية قبل الاحتلال بأيام وكانت لا تشكو من أي مرض عضال لحظة وفاتها، لكن الأطباء قالوا إن قلبها توقف فجأة بسبب صدمة عصبية قوية لم يمهلها. ولم يبحث الطبيب الذي عاينها عن سبب الوفاة، لقد كان مدركاّ أن الجدة سعدية أصيبت بصدمة عصبية، وهي تشاهد أرتال الدبابات تزحف باتجاه بغداد في مشهد لم تألفهٌ من قبل.
يقطع العم سعيد البقال الطريق أثناء مروري أمام محل البقالة، ويمازحني أن كان هناك خاطب ما في الطريق ويعرض أمامي مواصفات لشاب عازب يرغب بالزواج فأكون مرشحته، وعندما يلقى رفضاً من قبلي، يشاركني في العنة على أميركا وقواتها المدجة بالسلاح والتي مرغتّ مشاعرنا في العنوسة، فلم تعد الفتاة منّا تفكر في الزواج، وأصبحت أمنية الشاب قضاء ليلة في منزله دون الإحساس بالخوف من مداهمة ليلية قد تفضي به إلى الاعتقال فيقضي سنوات شبابه خلف الأسلاك الشائكة والقضبان التي تورث الغمّ والإحباط والشيخوخة.
يتساءل راسم كيف تفقد فتاة جميلة فاتنة كل رغباتها في الحياة وتشعر أنها عانس لمجرد أن تلمح رتلاً أميركياً يجتاز ال العام، لكن راسم يغير رأيه وقناعاته عندما تنفجر سيارة ملغومة بالقرب من سوقه التجاري فتقتل العشرات من النساء والأطفال الأبرياء، ويرى بركة الدم أمام عينيه، ويلمح أشلاء أجساد هنا وهناك، كف هنا، أصابع هناك، رأس هناك، جسد بلا رأس هناك.
يغلق راسم السوق التجاري الذي يعتاش عليه ويأخذ أسرته ويهاجر إلى السويد، يحثني على الهجرة ويكتب أنقذي شبابك من الضياع، ستصلين مرحلة العنوسة بالفعل، وستكونين عانسا غير مرغوب فيها بتاتاً، تعالي وسأجد لك هنا (شايب) يرضى أن يتزوج من عانس.
وجهي خالٍ من التجاعيد وبشرتي صافية صفاء سماء بغداد قبل أن تنفث فيه المروحيات الأميركية المقاتلة سمومها طيلة سبع سنوات من التحليق. نقية نقاء نهر دجلة قبل أن تعكرها أشلاء الذين تغدر بهم المليشيات وترميهم في قعر دجلة بعد أن تنال الهروات والكيبلات من أجسادهم وتشبعهم تعذيباً.
حين أقف قبال المرايا المنتشرة في أرجاء الغرف، مرآة في كل غرفة، وصالة، والحمامات الداخلية والخارجية، هذه المرايا التي علقتها أمي على الجدران وجعلت أبواب البيت ونوافذها مرايا تنبهني أن العمر يمضي والعنوسة تنتظرني قاب قوسين وأدنى إن لم ألحق بالقافلة والتقط منها الظل والشريك والنصف الآخر، والشر الذي لا بد منه حسب رأي أمي في أبي بعد زواج دام ثلاثين عاماً أسفر عن إنجاب أربعة أولاد وخمس من البنات تزوجنّ وأنجبن صبية وصبيان.
كلشان البياتي كاتبة وصحفية عراقية- ميدل ايست اون لاين