تخطى إلى المحتوى

هل في المرأة شؤم ؟ 2024.


كثيرا ما نسمع التشكيك في حفظ الإسلام حق المرأة والإعلاء من شأنها من خلال الكلام على حديث ( الشؤم في ثلاث ) ، وهذا إما من عدو متربص يلبس في المعنى ويفصل بين روابطه التي يكتمل بها ظهوره ، أو من جاهل يفهم معنى باطلا لم يدل عليه الدليل ثم يبثه أو يبقى في نفسه إشكالا يضيق به ويصد عنه ، أو ربما كان ذلك من شخص خاصم زوجته فوجه لها ذلك الوصف بأنها شؤم بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا جناية على الحديث أيما جناية .
لذا لا بد من بيان المعنى المراد من الحديث ليكون الاستدلال في محله ، ويرد كيد من أراد النيل من الإسلام في هذا الأمر في نحره .
وإن من نافلة القول ابتداء هنا تقرير ما للمرأة في الإسلام من مكانة عالية ومنزلة مصونة وحق محفوظ ، فهذا من الظهور أوضح من الشمس في ضحاها والقمر إذا تلاها ، وليس المقام ذكر الدلائل على ذلك هنا ، فهذا يطول ، لكن المقصود الوقوف على معنى حديث الشؤم المتعلق بالمرأة .
فقد جاء الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ عدة …
ففي لفظ : ( إنما الشؤم في ثلاثة : في الفرس و المرأة والدار )[1] .
وفي لفظ : ( الشؤم في المرأة والدار والفرس )[2].
وفي لفظ : ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس )[3].
وفي لفظ ( إن يكن من الشؤم شيء حق ففي الفرس والمرأة والدار )[4].
وفي لفظ : ( إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس )[5] ، وفي لفظ زيادة ( والسيف )[6].

وللعلماء رحمهم الله تعالى أجوبة عدة على ما قد يحصل من اشتباه في معنى الحديث :
الجواب الأول :
أن أصل الحديث حكاية لقول اليهود أو المشركين وبيان مذهبهم الباطل في ذلك ، ولكن قد روي الحديث بدون ما يدل على الحكاية .
ودليل ذلك ما رواه قتادة عن أبي حسان قال : دخل رجلان من بني عامر على عائشة رضي الله عنها فأخبراها أن أباهريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الطيرة في الدار والمرأة والفرس ) فغضبت ، فطارت شقة منها في السماء ، وشقة في الأرض ، وقالت : والذي نزل الفرقان على محمد ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، إنما قال : ( كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك ) .[7]
وفي رواية قالت : ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة والدار والدابة ) ، ثم قرأت عائشة رضي الله عنها : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب ) الآية .[8]
ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي عن مكحول أنه قال : قيل لعائشة : إن أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الشؤم في ثلاث : في الدار والمرأة والفرس ) فقالت عائشة رضي الله عنها : لم يحفظ أبو هريرة ؛ لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قاتل الله اليهود ، يقولون : إن الشؤم في الدار والمرأة والفرس ) فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله .[9]
قال الألباني : ( وإسناده حسن لولا الانقطاع بين مكحول وعائشة ، لكن لا بأس به في المتابعات والشواهد إن كان الرجل الساقط من بينهما هو شخص ثالث غير العامريين المتقدمين ) .[10]
ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال : سئل أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الطيرة في ثلاث : في المسكن والفرس والمرأة ) ؟ قال : إذاً أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أصدق الطيرة الفأل ، والعين حق ) .
ولكن هذه الرواية ضعيفة لضغف أبي معشر[11] ، ولما قيل من الانقطاع بين محمد بن قيس وأبي هريرة رضي الله عنه .[12]
ومما يؤيده أيضا ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن أبي مليكة قال : قلت لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كيف ترى في جارية لي ، في نفسي منها شيء ؟ فإني سمعتهم يقولون : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ( إن كان في شيء ففي الربع والفرس والمرأة ) ، قال : فأنكر أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أشد النكرة ، وقال : إذا وقع في نفسك منها شيء ففارقها ، بعها أو أعتقها .[13]
فبناء على قول عائشة رضي الله عنها ، فالحديث ليس فيه تقرير للطيرة ، بل هو متضمن للنهي والتحذير من ذلك ؛ إذ أن نسبة العمل لأهل الكفر والجاهلية دال على النهي .
هذا ، وقد رد بعض أهل العلم هذا الجواب ؛ لثبوت الحديث من طرق عدة ، وعن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم غير أبي هريرة .
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( ولكن قول عائشة هذا مرجوح ، ولها ـ رضي الله عنها ـ اجتهاد في رد بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة ، وهي ـ رضي الله عنها ـ لما ظنت أن هذا الحديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ، ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد روايتهم ، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ، ولو انفرد به فهو حافظ الأمة )[14] .
وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : ( ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقته من ذكرنا من الصحابة له في ذلك )[15] .
قلت : لم أجد رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه في إثبات الشؤم في هذه الأمور سوى ما تضمنته رواية إنكار عائشة رضي الله عنها ، وفيها إبهام للرجلين اللذين رويا ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وما أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى البزار والطبراني في الأوسط ، وقال : وفيه بلال بن داود الأودي وهو ضعيف . وعليه فثبوت ذلك عنه محل نظر ، والله أعلم .
ثم أيضا ، ثبوت إنكار ذلك عن عائشة رضي الله عنها يجعل هذا الجواب من القوة بمكان ، ثم إنه ليس فيه رد للرواية ، وإنما هو توجيه لها ، وبيان زيادة مهمة فيها تزيل الاشتباه في احتمال التعارض مع الروايات الدالة على نفي تأثير الطيرة في شيء ، والله أعلم .
قال الزركشي : ( قال بعض الأئمة : ورواية عائشة في هذا أشبه بالصواب إن شاء الله تعالى ـ ؛ لموافقتها نهيه عليه الصلاة والسلام عن الطيرة نهيا عاما ، وكراهتها ، وترغيبه في تركها بقوله « يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب » وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتكلون )[16] .

الجواب الثاني :
حمل رواية الجزم ـ وهي ( الشؤم في ثلاث … ) ورواية ( إنما الشؤم في ثلاث … ) ـ على رواية التعليق ـ وهي ( إن كان الشؤم في شيء … ) وما في معناه .
وقد وردت رواية الجزم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وأبي هريرة رضي الله عنه ـ فيما تضمنته رواية إنكار عائشة رضي الله عنها ـ .
أما رواية التعليق فقد وردت من عدة طرق : من طريق ابن عمر نفسه ، قال : ذكروا الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدر والمرأة والفرس ) .
ولها شاهد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن )[17] .
ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ولا هام ، إن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار )[18] .
ومن حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن كان شيء ففي المرأة والفرس والمسكن )[19] .
ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا طيرة ، والطيرة على من تطير ، وإن تك في شيء ففي الدار والفرس والمرأة )[20] .
ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ، وإن كان في شيء ففي المرأة والفرس والدار )[21] .
وبذلك يعلم أن رواية التعليق هي الأكثر ، وقد وردت عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، مما يدل على أنها هي المحفوظة ، فتحمل رواية الجزم عليها .
وبناء على ذلك فليس في الحديث دلالة على إثبات الطيرة في هذه الأمور ، بل هو موافق للنصوص الدالة على نفي الطيرة ؛ إذ أن المعنى : لو كانت الطيرة مؤثرة في شيء لكانت في هذه الثلاثة ، أما وإنها ليست كائنة فيها ـ وهي أكثر ما يلازم المرء ـ فإن الطيرة منفية في غيرها .
قال الإمام ابن جرير الطبري : ( وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس » فإنه لم يثبت بذلك صحة الطيرة ، بل إنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك إن كان في شيء ففي هذه الثلاث ، وذلك إلى النفي أقرب منه إلى الإيجاب ؛ لأن قول القائل : إن كان في هذه الدار أحد فزيد . غير إثبات منه أن فيها زيدا ، بل ذلك من النفي أن يكون فيها زيد أقرب منه إلى الإثبات أن فيها زيدا )[22] .
وقال الإمام الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ عند كلامه على حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتقدم : ( فلم يخبر أنها فيهن ، وإنما قال : إن تكن في شيء ففيهن ، أي لو كانت تكون في شيء لكانت في هؤلاء ، فإن لم تكن في هؤلاء الثلاثة فليست في شيء )[23] .
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ : ( والحديث يعطي بمفهومه أن لا شؤم في شيء ؛ لأن معناه : لو كان الشؤم ثابتا في شيء ما لكان في هذه الثلاثة ، لكنه ليس ثابتا في شيء أصلا . وعليه فما في بعض الروايات بلفظ » الشؤم في ثلاثة « فهو اختصار وتصرف من بعض الرواة ، والله أعلم )[24] .
ومن تأمل رواية البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ لما ذكر رواية ابن عمر ري الله عنهما ـ وهي بالجزم ـ عقبها برواية سهل بن سعد ـ وهي بالتعليق ـ مما ظاهره ما تقرر في هذا الجواب ، وهو حمل رواية الجزم على رواية التعليق ، والله أعلم .

الجواب الثالث :
تخصيص هذه الثلاثة من عموم ما يتطير به .
ورجحه الشوكاني ، فقال : ( فيكون حديث الشؤم مخصصا لعموم حديث » لا طيرة « فهو في قوة : لا طيرة إلا في هذه الثلاث . وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ ، وادعى بعضهم أنه إجماع ، والتاريخ في حديث الطيرة والشؤم مجهول )[25] .
ونسبه ابن القيم وابن حجر إلى ابن قتيبة .
قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وظاهر الحديث أن الشؤم والطيرة في هذه الثلاث ، قال ابن قتيبة : « ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم أن لا طيرة ، فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هؤلاء الثلاثة » . قلت : فمشى ابن قتيبة على ظاهره ، ويلزم من قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره ) [26].
قلت : وكلام ابن قتيبة في « تأويل مختلف الحديث » يرد ذلك ؛ إذ أن مضمونه رد الطيرة مطلقاً في هذه الثلاث وغيرها ، وحملُ حديث الثلاث على حكاية قول اليهود أو المشركين على ما قالته عائشة رضي الله عنها ، وحملُ حديث « ذروها ذميمة » على الرخصة في ترك ما استثقلوه .([27])
ولذلك فقد وجه القرطبي كلامه السابق الذي نقله ابن حجر ـ وأظنه في مشكل الحديث كما أشار إليه ابن القيم ـ بما معناه هذا المضمون ، فقال : ( ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقده فيها وتفعل عندها ، فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ؛ بناء على أن الطيرة تضر مطلقا ، فإن هذا ظن خطأ ، وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة هي أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها ، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ويسكن له خاطره ) [28] .
وعموماً فالجواب الذي تتفق فيه الروايات في المعنى أولى من هذا الجواب الذي يتقرر به التعارض ، فيلجأ به إلى التخصيص .

الجواب الرابع :
أن التطير واقع على من تطير ، استدلالا بحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا طيرة ، والطيرة على من تطير .. )[29] .
فقالوا : الشؤم بهذه الأشياء إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها ، فيكون شؤمها عليه ، ومن توكل على الله ولم يتشاءم بها ولم يتطير لم تكن مشؤومة عليه ، فقد يجعل الله تعالى تطير العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به ، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به .[30]
قلت : والاستدلال بحديث أنس على ذلك فيه نظر ؛ إذ أن هذا الاستدلال يفيد إثبات الطيرة على كل من تطير ، مع أن أول الحديث نفي لذلك .
قال الإمام ابن عبدالبر ـ رحمه الله تعالى ـ في بيان ذلك : ( فإن قال قائل : قد روى زهير بن معاوية عن عتبة بن حميد … ـ وذكر حديث أنس رضي الله عنه ـ .. وقال : هذا يوجب أن تكون الطيرة في الدار والمرأة والفرس لمن تطير . قيل له ـ وبالله التوفيق ـ : لو كان كما ظننت لكان الحديث ينفي بعضه بعضا ؛ لأن قوله » لا طيرة « نفي لها ، وقوله » والطيرة على من تطير « إيجاب لها ، وهذا محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا من النفي والإثبات في شيء واحد ووقت واحد ، ولكن المعنى في ذلك : نفي الطيرة بقوله » لا طيرة « ، وأما قوله » والطيرة على من تطير « فمعناه : إثم الطيرة على من تطير بعد علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة ، وقوله فيها « إنها شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » ، فمعنى هذا الحديث عندنا ـ والله أعلم ـ أن من تطير فقد أثم ، وإثمه على نفسه في تطيره ؛ لترك التوكل وصريح الإيمان ؛ لأنه يكون ما تطير به على نفسه في الحقيقة ؛ لأنه لا طيرة في الحقيقة )[31] .

الجواب الخامس :
أن المعنى هو إخبار عن الأسباب المثيرة للطيرة الكامنة في الغرائز ، وأنها بهذه الثلاث ، أخبر بها ليحذر منها ، فالحوادث التي تكثر مع هذه الأشياء والمصائب التي تتوالى عندها تدعو الناس إلى التشاؤم بها .[32]
فالمعنى : أن أكثر ما يقع الشؤم عند الناس هو بهذه الأمور الثلاثة ؛ وذلك لطول الملازمة ، ووقوع المصاحبة ، فمن تشاءم بشيء من هذه الأمور فقد شابه أهل الجاهلية .

الجواب السادس :
أن هذه الثلاث تكون في الغالب محال وظروف لحصول المكروه للمرء بحكم طول الملازمة والمصاحبة ، فيكون المحل حين يقع المكروه عنده ملازما لذلك المكروه ، فيقع الشؤم بذلك ، لا أن ذلك المحل هو السبب لوقوع ذلك المكروه .
فالمعنى منصرف إلى كون هذه الثلاث قد يقع الشؤم بها لكونها محالا لوقوع المكروه ، وقد تقرر النهي عن الطيرة والتشاؤم من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت مواقع لأقضيته ، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء ، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس ، وكان الإنسان في غالب أحواله لا يستغني عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه ، وكان لا يخلو من عارض مكروه في زمانه ودهره ، أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل ، وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه )[33] .

الجواب السابع :
أن المراد بذلك ليس ثبوت الشؤم في هذه الأمور مطلقا ، وإنما ما يكون منها من أعيان ممحوقة البركة ، فيكون الشر غالبا فيها ، وهي لطول ملازمة المرء لها يظل أثر ذلك ملازما له ، فيقضي حياته معذبا بذلك .
والإسلام جاء رحمة للعباد ، فرخص لمن هذه حاله مفارقة ما يكون شؤمه غالبا على نفسه ؛ حتى تطيب نفسه ، ويزول عنه ما يكره .
ولذلك فليس المقصود بذلك مطلق المرأة ومطلق الدار ومطلق الفرس ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذين تشاءموا من دارهم بالتحول إلى دار غيرها ! وكذلك لا يمكن أن يعيش المرء بلا دار ، ولم يكن هذا في الشرع أبدا !
وكذلك قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ، وقد شرع لأمته أن يتزوجوا ، وحث الشباب على ذلك ، فلو كانت كل امرأة مشؤومة لكان في هذا إبطال لذلك كله .
وكذلك الخيل قد أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تكون مباركة لصاحبها حين يراعي حق الله تعالى فيها ، فقال : ( الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له ، فهي لذلك أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر )[34] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( البركة في نواصي الخير )[35] .
فالمراد إذً ليس هو مطلق هؤلاء الثلاث ، وإنما ما قد يكون في ذلك من السوء مما يجعله شؤما ملازما لمن صاحبه .
ومما يدل على ذلك ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سعادة ابن آدم ثلاثة ، ومن شقوة بن آدم ثلاثة ، من سعادة بن آدم : المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح ، ومن شقوة بن آدم : المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء )[36] .
فالحديث دال دلالة صريحة على معنى الشؤم الذي يكون بهؤلاء الثلاث ، وأنه ليس من الرمي بالغيب كما هو حال الطيرة والشؤم المنهي عنه ، ولكنه سبب بيّن معلوم ، كما لو قلت : المعاصي شؤم على مرتكبها ، وسوء الخلق شؤم على صاحبه ، والابن العاق شؤم على والديه … وهكذا .
فما دام أن الشؤم الذي قد يقع بهؤلاء الثلاث قد جاء مفسرا بما هو سبب ظاهر له فلا يكون من باب الطيرة التي كان عليها أهل الجاهلية ، والتي هي من القذف بالغيب ، وخوض المرء بما ليس له به علم ، ولا له عليه دليل من الوحي المنزل أو الأسباب القدرية التي جعلها الله تعالى سننا للعباد يربطون بها الأسباب بمسبَّباتها .
ولقد جاء عن بعض السلف تفسير ذلك الشؤم المذكور في هذه الثلاث ، فقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن معمر : سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة إذا كانت غير ولود ، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه ، وشؤم الدار جار السوء .[37]
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وبالجملة فإخباره بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها ، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤومة على من قاربها وسكنها ، وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر ، وهذا كما يعطى سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ، ويعطى غيرهما ولدا مشؤما نذلا يريان الشر على وجهه ، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها ، فكذلك الدار والمرأة والفرس ، والله سبحانه خالق الخير والشر ، والسعود والنحوس ، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضى سعادة من قارنها وحصول اليمن له والبركة ، ويخلق بعض ذلك نحوسا يتنحس بها من قارنها ، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة ، فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة ولذذ بها من قارنها من الناس ، وخلق ضدها وجعلها سببا لإيذاء من قارنها من الناس ، والفرق بين هذين النوعين يدرك بالحس ، فكذلك في الديار والنساء والخيل ، فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر )[38] .

قلت : وأظهر ما تقدم من جواب هو في الأول والثاني والسابع ، والله تعالى أعلم .
وبذا يصان الحديث عن الظنون الكاذبة التي يدعيها الأعداء ويقبلها الجهلاء .

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.