من بلاغة القران الكريم :لماذا حذف حرف الجر من اية((قل لا يعلمُ منْ في السماوات والارض الغيبَ الا الله))65(النمل ).موضوع رقم(14)
واضح ان المعنى الرئيس في الاية هو ان ما في الغيب لا يعلمه الا الله تعالى ،((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر)) الانعام(59).وهذا لا خلاف عليه غير ان الاسلوب الذي جاءت به الاية لتثبيت هذا المعنى اسلوب قمة في البلاغة حين خرج الاستثناء- الاصل بالاداة(إلا)-الى معنى اخر هو الحصر باستخدام اسلوب النفي(لا)وأداة الحصر(إلا)وهو من أقوى اساليب الإثبات،على نحو:ما في الدار إلا زيدٌ، وقوله تعالى ((وما على الرسول إلا البلاغ المبين))النور(54) ونحو قوله تعالى((لا يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون))ال عمران (112)ونحو ((وما النصر إلا من عند الله ينصر من يشاء إن الله عزيز حكيم ))الانفال(10) . وعودة الى الاية المقصودة فقد خرجت (إلا)عن الاستثناء الى الحصر،وذلك حين جعلت الحدث مقصورا على ما بعدها،وفي هذه الحال يكون الاستثناء مفرغا،أي غير موجود فيه شيء (فارغا)وما دام فارغا فلا يوجد مستثنى منه ،لذلك خرج إلى معنى اخر هو الحصر،والغاية منه أن تجعل الحدث الذي يسبقها مقصورا على ما بعدها أي حدث علم الغيب مقصور على الله تعالى لا يشاركه فيه أحد ،وهذا ورد في لغة العرب في قول الاعشى:
لم تمشِ ميلاً ولم تركب على جملٍ====ولم ترَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ
وتاويلها هنا أي لم تر الشمس إلا مظللة بالكلية
ولما خرج الاستثناء الى الحصر صار اعراب(الله):بدل من(منْ) وهو هنا بدل اشتمال :وهو الذي يكون فيه البدل ليس جزءاً من المبدل منه ولكنه مما يشتمل عليه فالله تعالى(البدل) ليس جزءا من المبدل منه(منْ) بل يشتمل عليه أي يعلمه هو الاخر كاملا في كل احواله .والبدل بداهة في اصطلاح النحويين يكون هو المقصود،ومن امثلة بدل الاشتمال قوله تعالى:((يسألونك عن الشهر الحرامِ قتالٍ فيه))217 البقرة،فقتال بدل اشتمال من الشهر لان القتال يكون في الشهر وهكذا فالقتال هو المقصود. كما الله تعالى هو المقصود بالغيب حصرا.
هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فإن حرف الجر قد أُسقط من(منْ)والتقدير((قل لا يعلم ممن في السماوات والارض الغيب الا الله))وقد جاء اسقاطه في قمة البلاغة لان الله تعالى ليس جزءا ممن في السماوات والارض بل هو الخالق ليس كمثله شيء،ولا يستند في وجوده لشيء مطلقا، بل كل ما سواه مخلوق يستند إليه ،ولو ذكرها لكانت مِن للتبعيض على نحو قوله تعالى:((وقالت اليهود والنصارى نحن أولياء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق)) المائدة( 18)وعلى نحو قوله تعالى((قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك))هود(48)،ونحو قوله تعالى((ومن ذرية ابراهيم واسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ايات الرحمن خروا سجدا وبكيا))مريم(58)
كان لهارون الرشيد –رحمه الله تعالى-طبيب نصراني ،دخل عليه يوما وكان عنده العالم الواقدي فقال الطبيب للواقدي يناظره:إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله،وتلا الاية)):إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه))النساء (171).فقال الواقدي:قال تعالى: ((وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه )) الجاثية(13)فيجب إذا كان عيسى جزءا من الله أن يكون ما في السماوات وما في الارض جزءا منه ،فانقطع النصراني عن الكلام وأسلم،وفرح الرشيد بذلك ووصل الواقدي بصلة عظيمة.
لان من هنا للابتداء أي ابتداء الخلق كله من الله تعالى،وليست للتبعيض فلا يوجد شيء يقال عنه :بعض أو جزء من الله،سبحانه الذي ليس كمثله شيء. ولذلك أسقط حرف الجر من اية الغيب (من) والتقدير ممن وإذا علمنا أن الفاعل في الاية هو(منْ) :ضمير منفصل مبني في محل رفع فاعل،فإن هذا الفاعل (المبدل منه )صار لفظ الجلالة (الله ُ)(بدلا منه).أي بدلا من فاعل الفعل(يعلم) المتعلق بعلم الغيب.
وأما قوله تعالى:((عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين بين يديه ومن خلفه رصدا))الجن(26)فإن المعنى واضح فمن ارتضى الله تعالى من رسله أطلعه على ما أراده له من علم الغيب،أي يكون بإذن الله تعالى،وقد ذكر علة ذلك في قوله تعالى:()ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عددا)) فأين ما يدعيه بعض الشيعة –إن لم يكن جلهم-من علم بالغيب ينسبونه إلى أئئمتهم المزعومين وخاصة الامام علي –رضي الله عنه-وهم منهم برئاء؟قال تعالى على لسان النبي عليه السلام:()قل إني لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا بشير ونذير لقوم يؤمنون))الاعراف(188)
سبحان من علم الانسان ما لم يعلم
بقلم الشاعر:داود العرامين/فلسطين
جزاك الله الف خير
واياكي حبيبتي