أ.حســــان أحمد العماري
بسم الله الرحمن الرحيم
من نظر اليوم إلى واقع الأفراد والمجتمعات والدول وجد الهموم والهواجس والمخاوف والأحزان تعصف بالناس عصفاً … فهناك هم الأمراض والكوارث والحروب ، وهناك هموم ومخاوف وقلق نفسي يصيب الأفراد والمجتمعات والدول تتعلق بالرزق وسبل توفيره والتدهور الإقتصادي وسبل علاجه وبالمستقبل المجهول والخوف من حلول الكوارث و نزول الأمراض والأوبئة .. وهناك هموم على مستوى الأفراد هم الزوجة وهم الأولاد وتوفير الرزق لهم وكيفية ضمان مستقبل آمناً لهم وهناك هم الوظيفة وهم المنصب وهم الراحة والأمن والطمأنينة وهم الحروب والمشاكل والصراعات والفتن وأصبح كثير من الناس يعيش في حيرة وقلق واضطراب .. قلوبهم واجفة مضطربة خائفة وجلة مما يقع في هذا العالم الذي فقد راحته وأمنه وسعادة حتى قال الشاعر :
مَلَكٌ كان على باب السماء … يختم أوراق الوفود الزائرة طالباً من كل آت نبذة مختصرة … عن أراضيه وعمن أحضره … قال آت : أنا من تلك الكرة .. كنت في طائرة قبل قليل .. غير أني قبل أن يطرف جفني جئت محمولاً هنا فوق شظايا الطائرة … وقال آت : أنا من تلك الكرة .. قبل ساعات ركبت البحر .. لكني جئت محمولاً على متن حريق الباخرة … وقال آت : أنا من تلك الكرة .. وأنا لم أركب الجو أو البحر .. ولا أملك سعر التذكرة .. كنت في وسط نقاش أخوي في بلادي غير أني جئت محمولا على متن رصاص المجزرة …. أنا من تلك الكرة … في انقلاب عسكري .. أنا من تلك اجتياح أجنبي – أنا من .. أعمال عنف في كراتشي … أنا… حرب دائرة … ثورة شعبية في القاهرة … عبوة ناسفة .. طلقة قناص … كمين … طعنة في الظهر … ثأر … هزة أرضية في أنقرة …. أنا … من .. تلك الكرة … الملاكُ اهتز مذهولاً وألقى دفتره : أأنا أجلس بالمقلوب أم أني فقدت الذاكرة؟ أسأل الله الرضا والمغفرة إن تكن تلك هي الدنيا فأين الآخرة؟ (شعر/ أحمد مطر).
فهل يعقل أن تصل حياة كثير من الناس والمجتمعات والدول إلى هذا الوضع الذي ينذر بالخطر الداهم على عقيدة الفرد وحياته وآخرته وسلامة المجتمع وأمنه؟ فلماذا هذا الخوف والقلق النفسي والذي أصبح اليوم طاعون الحياة ؟ ولماذا أصبح الإنسان لا يتورع عن ارتكاب الجرائم والموبقات في حق إخوانه وبني جنسه ؟ لماذا ضعف الشعور بالأمان في عصر التقنية والتطور الصناعي والتقدم العلمي والتكنولوجي ؟ لماذا يقتل الإنسان أخوه ويعتدي على ماله وعرضه؟ وهل يعقل أن يخلق الله الخلق تم يتركهم ليعيشوا هكذا حياة وبهذه الصورة ؟ كلا وتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا بل خلقهم ودلهم على ما فيه سعادتهم وراحتهم وأمنهم النفس والإجتماعي يقول عز وجل:" ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70) فالإنسان مخلوق كريم عند الله، سخر له ما في السماوات والأرض وبين له طريق الحياة الكريمة التي لا شقا فيها ولا تعاسة ولا قلق ولا حيرة حتى وإن وجدت تلك المصائب والمنغصات والكوارث فأنها من قدر الله ليبتلي عباده لكنه دلهم على طريق النجاة ودلهم على العلاج الذي يضمن لهم الراحة والطمأنينة والأمن النفسي حتى في أحلك الظروف وأصعب الأزمات …
سُئل حاتم الأصم : علام بنيت أمرك في ( أي كيف بنيت حياتك وما سبب سعادتك واطمئنانك )؟ قال على أربع خصال :- علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي وعلمت أن عملي لا بقوم به غيري فأنا مشغول به … وعلمت أن الموت يأتيني بغته فأنا أبادره … وعلمت أني لا أخلو من عين الله عزّ وجلّ حيث كنت ، فأنا أستحي منه …. إن من أعظم القضايا التي تشغل الإنسان وتجلب عليه المشاكل وتدخل عليه الهموم .. الخوف على فوات الرزق لكن الإيمان والثقة بالله والتوكل عليه تعلم المسلم أن الرزق بيد الله وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزفها وأن هذا العالم بقوته وقدرته وأسلحته لن يستطيع أن يسلبك شيئاً من رزقك ولو كان شيئاً يسيرا .. قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (فاطر:3) وقال تعالى ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) [السلسلة (2866)]. وقال صلى الله عليه وسلم: ( لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت ) حسنه الألباني / 950 )
إن رزقك يا عبد الله كتب لك وأنت في بطن أمك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له، اكتب عمله و رزقه وأجله، وشقي أو سعيد ثمُ ينفخ فيه الروح)) رواه البخاري ومسلم. .. فو الله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقضيضها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها وأرادوا أن يمنعوا رزقاً قدره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبْها الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة فكن مطمئن فرزقك عند الذي لا تأخذه سنة ولا نوم فأحسن الطلب ولا تطلبه إلا من طرق الحلال . قال عزَّ شأنه: ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] وابذل الأسباب ثم توكل على الله وتق به .. يالله .. كم أذل الخوف على فوات الرزق من أفراد ومجتمعات ودول وكم تنصلت عن قيمها ومبادئها لأجل ذلك وكم ارتكبت لأجل ذلك من جرائم ومخالفات وكم سفكت من دماء وانتهكت من أعراض وكم ظهرت من خيانة للأمانات وكم فرط الناس بما تحت أيديهم من مسئوليات ..
وأما الخوف على الأولاد وضمان مستقبلهم فقد ضمن الله ذلك بشرط صلاح الآباء واستقامتهم قال تعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدا)(النساء/9) فإذا كنت تحب أبنائك وتخشى عليهم بعد فراقك لهم فكن صالحاً واطمأن فإن الله سيحفظهم ويعينهم وفي سورة الكهف يقول تعالى عن سبب حفظ الجدار وبنائه وترميمه من قبل الخضر عليه السلام قال تعالى ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) (الكهف/82) ..
لما جاءت سكرات الموت لعمر بن عبد العزيز قيل له هؤلاء بنوك وكانوا احد عشر ألا توصي لهم بشيء ; فإنهم فقراء ؟ فقال( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) [ الأعراف : 196 ] فمات وخلف أحد عشر ابناً، فبلغت تركته سبعة عشر ديناراً، كفن منها بخمسة دنانير، واشترى له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً، ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً، فورث كل واحد منهم ألف ألف درهم قال المؤرخون فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز ينفق من ماله ثمانين فرسا في سبيل الله ، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك مع كثرة ما ترك لهم من الأموال في الشوارع يسأل الناس … وأما الخوف من المجهول ومن المستقبل الذي أرق الناس وجلب لهم القلق والهم فأن الإيمان عقيدة تنفث في روع المسلم وخلده أن كل شيء في هذا الكون بيد الله وأنه لن يحدث أمر من خير أو شر إلا بقدر الله وأن ما قدره الله وقضاه واقع لا محالة قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23]… وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : " كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : ( يا غلام ، إني أُعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سأَلت فاسأَل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) . رواه الترمذي وقال :" حديث حسن صحيح "… ومن آمن بقدر الله وقدرته ومشيئته، وأدرك عجزهُ، وحاجته إلى خالقه تعالى، فهو يصدق في توكلِّه على ربَّه ويأخذ بالأسباب التي خلقها الله، ويطلب من ربه العون والسداد.. والمؤمن يردد في يقين قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].. عند ذلك سيطمئن قلبك …
وأما المــــــــوت فلماذا الخوف منه وهو سنة الله في خلقه وهو قدر الله في أرضه وسماءه قال تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185) .. والمؤمن بربه قد أراح نفسه من هذا الهم والقلق بيقنه أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها قال تعالى ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (لأعراف:34) …
لما حضرت أبا ذر الوفاة .. بكت زوجته .. فقال : ما يبكيك ؟ قالت : و كيف لا أبكي و أنت تموت بأرض فلاة و ليس معنا ثوب يسعك كفنا فقال لها : لا تبكي و أبشري فقد سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول لنفر أنا منهم :ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين و ليس من أولئك النفر أحد إلا و مات في قرية و جماعة , و أنا الذي أموت بفلاة , و الله ما كذبت و لا كذبت فانظري الطريق قالت :كيف و قد ذهب الحجاج و تقطعت الطريق .. فقال انظري فإذا أنا برجال فألحت ثوبي فأسرعوا إلي فقالوا : ما لك يا أمة الله ؟ وكان فيهم الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود .. قالت : امرؤ من المسلمين تكفونه .. فقالوا : من هو ؟ قالت : أبو ذر قالوا : صاحب رسول الله … ففدوه بأبائهم و أمهاتهم و دخلوا عليه فبشرهم و ذكر لهم الحديث … فلما مات و فاضت روحه قال بن مسعود : صدق رسول الله فيك يا أبا ذر تعيش وحيدا وتموت وحيدا وتبعث وحيدا وصلى عليه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين ..
إن الخوف من الموت إن زاد عن حده الفطري ( فكل إنسان يحب الحياة ويرغب في أن يطول عمره ) يجلب على العبد الجبن والذل والقلق والهم والغم .. بل ويدفعه إلى بيع قيمه ومبادئه وأخلاقه وكل ذلك على حساب راحته وسعادته وفي الأخير سيأتي الموت قال تعالى ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )(آل عمران: 154) وقال تعالى ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ)(النساء: من الآية78) … وأما الخوف من تسلط العدو وتجبر الظلمة فأعلم أن لك قوة عظيمة تلجأ إليها عند نوائب الدهر وشدائد الزمان ، هذه القوة لا يمكن أن تهزم أو تضعف او تغيب وتتلاشى إنها قوة الله ..
إن هـــذه القوة يستمدها المسلم بإيمانه وتوكله على الله واعتزازه به .. قال تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر:10) ولهــذا لما تقـرر عند قوم شعيب عليه السلام أن العزة إنما تكون بما لدى المرء أو قومه من قوة وأسباب دنيوية فقط، صحح لهم نبيهم عليه السلام هذا المفهوم وأرشدهم إلى مصدر العزة الحقيقي .. ( قَالُـــوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) (هود:91) فهم يرون أنه في نفسه غير عزيز، ويرون أنه يستمد عزته من قومه، فقال لهم: " ( يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (هود:92) فماذا كانت نتيجة الركــــون إلى الله وطلب المدد منه قال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود:94) .
يقول طاووس بن كيسان ـ وهو من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه, و من رواة البخاري ومسلم يقول: دخلت الحرم لأعتمر، قال: فلما أديت العمرة جلست عند المقام بعد أن صليت ركعتين، فالتفت إلى الناس وإلى البيت، فإذا بجلبة الناس والسلاح .. والسيوف .. والدرق .. والحراب .. والتفتت فإذا هو الحجاج بن يوسف، !! يقول طاووس: فرأيت الحراب فجلست مكاني، وبينما أنا جالس إذا برجل من أهل اليمن، فقير زاهد عابد، أقبل فطاف بالبيت ثم جاء ليصلي ركعتين، فتعلق ثوبه بحربة من حراب جنود الحجاج، فوقعت الحربة على الحجاج، فاستوقفه الحجاج، وقال له: من أنت؟ قال: مسلم. قال: من أين أنت؟ قال: من اليمن. قال: كيف أخي عندكم؟ وكان أخوه والياً على اليمن … قال الرجل: تركته سمينًا بدينًا بطينًا! قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، لكن عن عدله؟ قال: تركته غشومًا ظلومًا! قال: أما تدري أنه أخي! قال الرجل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف. قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله ؟! قال طاووس: فما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت! قال: فأفلته الحجاج وتركه .. أي عـــزة هذه وأي عظمة هذه وأي قوة ينفثها الإيمان في روع المسلم وقلبه فتصغر في عينية الدنيا وفتنها ومغرياتها وقواها وابتلاءاتها … إن المسلم لا يدرك هذه القوة إلا عندما يستشعر عظمة الله وقدرته وسعة ملكه وسلطانه فيترفع ويبتعد عن مواطن الذل والمهانة فلا يخاف من أجله ولا يخشى على رزقه يردد قوله تعالى ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:145) وقال تعالى ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) لمــــا استدعى المندوب السامي الفرنسي ـ في سوريا ـ الشيخ عبدالحميد الجزائري وقال له: إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت جنوداً لإغلاق المسجد الذي تنفث فيه هذه السموم ضدنا وإخماد أصواتك المنكرة. فأجاب الشيخ عبدالحميد: أيها الحاكــم إنك لا تستطيع ذلك. واستشاط الحاكم غضباً, كيف لا أستطيع ؟ قــال الشيخ: إذا كنت في عُرسٍ هنأت وعلمت المحتفلين, وإذا كنت في مأتمٍ وعظت المعزين, وإن جلست في قطارٍ علَّمتُ المسافرين, وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين, وإن قتلتموني ألهبت مشاعر المواطنين, وخيرٌ لك أيها الحاكم ألا تتعرض للأمة في دينها ولغتها…
هذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول :
أنا إن عشت لست أعدم قوتا **** و إن أنا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك و نفسي **** نفس حر ترى المذلة كفرا
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو في أشد محنته يقول : (ما يصنع أعدائي بي ؟أنا جنتي وبستاني في صدري أينما اتجهت لا تفارقني ،أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة ،وإخراجي من بلدي سياحة ) .. يا للروعة .. إنها كلمات تضيء النفوس ،وتنبهر بها العقول، وتهتز لها القلوب ،وتغمر الكون بالصفاء والروحانية والثقة واليقين والعزة …. فكن مطمئناً وعش حياتك بكل سعادة تحت أي ظروف وتوكل على الله وأحسن الصلة به ولا تستسلم لوساوس الشيطان وخواطر النفوس حينما تضعف وإيحاءات الباطل وكلام المثبطين وابذل ما استطعت من الأسباب لتتجاوز المحن وتتعدى الصعاب واصبر في ذات الله ولا ترضخ لهموم الحياة مهما كانت شدتها وقوتها وتفائل باليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة والنصر بعد الصبر وكن صاحب رسالة ومبدأ تعيش من أجله لتكون عظيماً في الدنيا وملكاً هنــــاك في جنة عرضها السموات والأرض مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقـــاً.
انتهى …
.. يعطيك الف عافية ..}~
كلي غموض