عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا
وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا
وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا
لِلطَّاغِينَ مَآبًا
لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا
لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا
إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا
جَزَاء وِفَاقًا
إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا
فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا
وَكَأْسًا دِهَاقًا
لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا
جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا
إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه , ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم , في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم , يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه:(ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا , وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ?).
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون , والذي هددهم به يوم يعلمون ! ليقول لهم ما هو ? وكيف يكون:(إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: (إن جهنم كانت مرصادا , للطاغين مآبا , لابثين فيها أحقابا , لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا , وكذبوا بآياتنا كذابا ,وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا إن للمتقين مفازا:حدائق وأعنابا , وكواعب أترابا , وكأسا دهاقا , لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . جزاء من ربك عطاء حسابا).
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل:(رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه , ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا). .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم !
الدرس الأول:1 – 5 تهديد الكفار المنكرين للنبأ العظيم
(عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون). . مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين , وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل , ولا يكادون يتصورون وقوعه , وهو أولى شيء بأن يكون !
(عم يتساءلون ?). . وعن أي شيء يتحدثون ? ثم يجيب . فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم , بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته:
(عن النبأ العظيم , الذي هم فيه مختلفون). . ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه , إنما ذكره بوصفه . . النبأ العظيم . . استطرادا في أسلوب التعجيب والتضخيم . . وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه . أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم .
ثم لا يجيب عن التساؤل , ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه . فيتركه بوصفه . . العظيم . . وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف , وهو أوقع من الجواب المباشر , وأعمق في التخويف:
(كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون !). . ولفظ كلا , يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه . وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه .
الدرس الثاني:6 – 16 تذكيرهم ببعض نعم الله عليهم
ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون . ليلتقي به بعد قليل . يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد , تهز الكيان حين يتدبرها الجنان:
(ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا , وجنات ألفافا ?). .
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض , مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد , تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات , مما يجعل إيقاعها في الحس حادا ثقيلا نفاذا , كأنه المطارق المتوالية , بلا فتور ولا انقطاع ! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين – وهي في اللغة تفيد التقرير – صيغة مقصودة هنا , وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين , وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير , والقدرة على الإنشاء والإعادة , والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء . . ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال:
(ألم نجعل الأرض مهادا , والجبال أوتادا ?). .
والمهاد:الممهد للسير . . والمهاد اللين كالمهد . . وكلاهما متقارب . وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته . فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية . وكون الجبال أوتادا ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي ; وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس .
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد . وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره , كبرت هذه الحقيقة في نفسه ; وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم , والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم ; وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها ; وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها .
وجعل الأرض مهادا للحياة – وللحياة الإنسانية بوجه خاص – شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر . فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها . أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض . . الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا ; ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة , ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه . .
وجعل الجبال أوتادا . . يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد , فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها . أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن , وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها . . وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال . . وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية , وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية . . وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد . . وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم . ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين !
واللمسة الثانية في ذوات النفوس , في نواحي وحقائق شتى:
(وخلقناكم أزواجا). .
وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة . . فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى , وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما . وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة , ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير . ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها , ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير .
ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها , تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضا . . هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكرا , وتجعل من نطفة أنثى , بدون مميز ظاهر في هذه النطفة أو تلك , يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكرا , وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى . . اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي , وتوجيهها اللطيف , وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك , لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى !
(وجعلنا نومكم سباتا . وجعلنا الليل لباسا . وجعلنا النهار معاشا). .
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط ; ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة , تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة . .
وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها , ولا نصيب لإرادته فيها ; ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه . فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم . وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها ! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر ; وجعل حياته متوقفة عليه . فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة . فإذا أجبر إجبارا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظا فإنه يهلك قطعا .
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب . . إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف , هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته – طائعا أو غير طائع – ويستسلم لفترة من السلام الآمن , والسلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب . ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان , والروح مثقل , والأعصاب مكدودة , والنفس منزعجة , والقلب مروع . وكأنما هذا النعاس – وأحيانا لا يزيد على لحظات – انقلاب تام في كيان هذا الفرد . وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته , وكأنما هو كائن حين يصحو جديد . .
ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد , وامتن الله عليهم بها . وهو يقول: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه). . (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم). . كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة !
فهذا السبات:أي الإنقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي ; وسر من أسرار القدرة الخالقة ; ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه . وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته , وإلى اليد التي أودعتها كيانه , ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر .
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء . وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات , بعد العمل والنشاط , فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباسا ساترا يتم فيه السبات والانزواء . وظاهرة النهار ليكون معاشا تتم فيه الحركة والنشاط . . بهذا توافق خلق الله وتناسق . وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء . تلبي ما ركب فيهم من خصائص . وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات . وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقا أدق اتساق !
واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء:
(وبنينا فوقكم سبعا شدادا . وجعلنا سراجا وهاجا . وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا . لنخرج به حبا ونباتا , وجنات ألفافا). .
والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع , وهي الطرائق السبع في موضع آخر . . والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله . . فقد تكون سبع مجموعات من المجرات – وهي مجموعات من النجوم قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم – وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية . . وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون , الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل .
إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين , قوية البناء , مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء . وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان . . كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان .
يدل على هذا ما بعده:
(وجعلنا سراجا وهاجا). . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات:(وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا). . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها ? قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات ! وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة(سراج)دقيق كل الدقة ومختار . .
ومن السراج الوهاج وما يكسبه من أشعة فيها ضوء وحرارة , ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج , ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة , وهو الثجاج , من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته , والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان .
وهذا التناسق في تصميم الكون , لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه , وحكمة تقدره , وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه , فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون , مجرد تعنت لا يستحق الاحترام !
إن لهذا الكون خالقا , وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو:من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . وخلق الناس أزواجا . وجعل نومهم سباتا [ بعد الحركة والوعي والنشاط ] مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء , وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج . وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . .
توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق , ويشي بالتدبير والتقدير , ويشعر بالخالق الحكيم القدير . ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
الدرس الثالث:17 – 20 من مشاهد يوم القيامة نفخ الصور()
ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع . ووراء هذا كله حساب وجزاء . ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل:
(إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
إن الناس لم يخلقوا عبثا , ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق , ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق , لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملا ! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعا ! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيرا واحدا . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعا !
إن هنالك يوما للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود:
(إن يوم الفصل كان ميقاتا). .
وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .
(يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا , وسيرت الجبال فكانت سرابا).
والصور:البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيمانا ولا تأثرا بالحادث . وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون , وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد ! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجا . .
نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلا بعد جيل , وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود . . نتصور مشهد هذه الخلائق جميعا . . أفواجا . . مبعوثين قائمين آتين من كل فج إلى حيث يحشرون . ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها , ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم . . أين ? لا ندري . . ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام:
(وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
السماء المبنية المتينة . . فتحت فكانت أبوابا . . فهي منشقة . منفرجة . كما جاء في مواضع وسور أخرى . على هيئة لا عهد لنا بها . والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سرابا . فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء , يحركه الهواء – كما جاء في مواضع وسور أخرى . ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة . أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب !
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور , كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور . وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير . .
الدرس الرابع:21 – 30 لقطات من عذاب الكفار في النار
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر , فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم:
(إن جهنم كانت مرصادا , للطاغين مآبا , لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا , إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا , وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم , مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل ! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب:
(لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا). . ثم يستثني . . فإذا الاستثناء أمر وأدهى:(إلا حميما وغساقا). . إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون . فهذا هو البرد ! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل . فهذا هو الشراب !
(جزاء وفاقا). . يوافق ما أسلفوا وما قدموا . .(إنهم كانوا لا يرجون حسابا). . ولا يتوقعون مآبا . .(وكذبوا بآياتنا كذابا). . وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه .
بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقا لا يفلت منه حرف:(وكل شيء أحصيناه كتابا). . هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف:(فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
الدرس الخامس:31 – 36 لقطات من نعيم المتقين في الجنة
ثم يعرض المشهد المقابل:مشهد التقاة في النعيم . بعد مشهد الطغاة في الحميم:
(إن للمتقين مفازا . حدائق وأعنابا . وكواعب أترابا . وكأسا دهاقا . لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . . جزاء من ربك عطاء حسابا). .
فإذا كانت جهنم هناك مرصدا ومآبا للطاغين , لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها , فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة , تتمثل(حدائق وأعنابا)ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون . .(وكواعب)وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن(أترابا)متوافيات السن والجمال .(وكأسا دهاقا)مترعة بالشراب .
وهي مناعم ظاهرها حسي , لتقريبها للتصور البشري . أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها . . وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور:(لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا). . فهي حياة مصونة من اللغو والتكذيب الذي يصاحبه الجدل ; فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب ; كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه . . وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود . .
(جزاء من ربك عطاء حسابا). . ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين(جزاء)و(عطاء). . كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب . . وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالا .
وتكملة لمشاهد اليوم الذي الذي يتم فيه ذلك كله , والذي يتساءل عنه المتسائلون , ويختلف فيه المختلفون . يجيء المشهد الختامي في السورة , حيث يقف جبريل "عليه السلام" والملائكة صفا بين يدي الرحمن خاشعين . لا يتكلمون – إلا من أذن له الرحمن – في الموقف المهيب الجليل:
(رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا). .
ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق:جزاء الطغاة وجزاء التقاة . هذا الجزاء (من ربك). . (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن). . فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان . كما تشمل السماوات والأرض , وتشمل الدنيا والآخرة , وتجازي على الطغيان والتقوى , وتنتهي إليها الآخرة والأولى . . ثم هو(الرحمن). . ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء . حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن . ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره !
ومع الرحمة والجلال: (لا يملكون منه خطابا). . في ذلك اليوم المهيب الرهيب:يوم يقف جبريل – عليه السلام – والملائكة الآخرون (صفا لا يتكلمون). . إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صوابا . فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب .
الدرس السابع:39 – 40 دعوة للنجاة من ذلك اليوم
وموقف هؤلاء المقربين إلى الله , الأبرياء من الذنب والمعصية . موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن وبحساب . . يغمر الجو بالروعة والرهبة والجلال والوقار . وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار , وهزة للنائمين السادرين في الخمار:
ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا:يوم ينظر المرء ما قدمت يداه , ويقول الكافر:يال ليتني كنت ترابا . .
إنها الهزة العنيفة لأولئك الذين يتساءلون في ارتياب: (ذلك اليوم الحق). . فلا مجال للتساؤل والاختلاف . . والفرصة ما تزال سانحة ! (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا). . قبل أن تكون جهنم مرصادا ومآبا !
وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا). . ليس بالبعيد , فجهنم تنتظركم وتترصد لكم . على النحو الذي رأيتم . والدنيا كلها رحلة قصيرة , وعمر قريب !
وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه . ويقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا). . وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب !
وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم , حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم . ويصير إلى عنصر مهمل زهيد . ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد . . وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين . في ذلك النبأ العظيم !!!