اللهم صلي وسلم على الحبيب المصطفى وعلى اله وصحبه أجمعين
صفة اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم
نص المطويه :
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه (زاد المعاد في خير هدي العباد):
"فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف: لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام وفضول المنام، مما يزيده شعثاً ويشته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة".
مقصود الاعتكاف
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حيث لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
علاقة الاعتكاف بالصوم
ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط، بل قد قالت عائشة رضي الله عنها: "لا اعتكاف إلا بصوم".
ولم يذكر الله تعالى الاعتكاف إلا مع الصوم ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم.
فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية.
فضول الكلام والمنام
وأما الكلام: فإنه شرع للأمة حبس السان عن كل ما لا ينفع في الآخرة.
وأما فضول المنام: فإنه شرع لهم من قيام اليل ما هو أفضل السهر وأحمده عاقبة، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن، ولا يعوق عن مصلحة العبد.
ومدار رياضة أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة وأسعدهم بها من سلك فيه المنهاج النبوي المحمدي ولم ينحرف انحراف الغالين، ولا قصر تقصير المفرطين.
وقد ذكرنا هديه صلى الله عليه وسلم في صيامه وقيامه وكلامه فلنذكر هديه في اعتكافه.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل.
وتركه مرة فقضاه في شوال.
واعتكف مرة في العشر الأول، ثم الأوسط ثم العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر.
ثم تبين له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل.
وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل.
وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله فأمر به مرة فضرب فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال.
وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام، فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً.
وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة، فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين.
وكان يعرض عليه القرآن أيضاً في كل سنة مرة، فعرض عليه تلك السنة مرتين.
وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده.
وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان.
وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة فترجله وتغسله وهو في المسجد وهي حائض.
وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف فإذا قامت تذهب قام معها يقبلها وكان ذلك ليلاً.
وكان إذا اعتكف طرح له فراشه، وضع له سريره في معتكفه.
وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض وهو على طريقه فلا يعرج عليه ولا يسأل عنه.
واعتكف مرة في قبة تركية، وجعل على سدتها حصيراً، كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله أعلم.
أعوام لم يعتكف فيها النبي صلى الله عليه وسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قول عائشة: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله». متفق عليه
هذا إشارة إلى مقامه في المدينة، وأنه كان يعتكف أداءً أو قضاءً، فإنه قد ثبت في الصحيح أنه أراد أن يعتكف مرة، فطلب نساؤه الاعتكاف معه، فرأى أن مقصود بعضهن المباهاة، فأمر بالخيام فقوضت، وترك الاعتكاف ذلك العام حتى قضاه من شوال".
وهو عليه الصلاة والسلام لم يصم رمضان إلا تسع مرات، فإنه فرض في العام الثاني من الهجرة بعد أن صام يوم عاشوراء وأمر الناس بصيامه مرة واحدة، فإنه قدم المدينة في شهربيع الأول من السنة الأولى وقد تقدم عاشوراء، فلم يأمر ذلك العام بصيامه، فلما أهل العام الثاني أمر الناس بصيامه.
وهل كان أمر إيجاب أو استحباب؟
على قولين لأصحابنا وغيرهم.
والصحيح أنه كان أمر إيجاب ابتدىء في أثناء النهار، لم يؤمروا به من اليل.
فلما كان في أثناء الحول -رجب أو غيره- فرض شهر رمضان وغزا النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ذلك العام، أول شهر فرض غزوة بدر وكانت يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من الشهر، فلما ه الله على المشركين أقام بالعرصة بعد الفتح ثلاثاً، فدخل عليه العشر وهو في السفر، فرجع إلى المدينة ولم يبق من الشهر إلا أقلة، فلم يعتكف ذلك الشهر بالمدينة وكان في تمامه مشغولاً بأمر الأسرى والفداء.
ولما شاورهم في الفداء قام فدخل بيته ثم خرج وأحواله المنقولة تدل على أنه لم يعتكف تمام ذلك العشر، لكن يمكن أنه قضى اعتكافه كما قضى صيامه، وكما قضى اعتكاف العام، الذي أراد نساؤه الاعتكاف معه فيه، فهذا عام بدر.
وأيضاً فعام الفتح سنة ثمان، كان قد سافر في شهر رمضان ودخل مكة في أثناء الشهر، وقد بقي منه أقلة، وهو في مكة مشتغل بآثار الفتح، وتسرية السرايا إلى ما حول مكة، وتقرير أصول الإسلام بأم القرى، والتجهز لغزو هوازن، لما بلغه أنهم قد جمعوا له مع مالك بن عوف النضري.
وقد أقام بمكة في غزوة الفتح تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة.
قالوا: لأنه لم يكن قد أجمع المقام بمكة لأكل غزو هوازن، فكان مسافراً فيها غير متفرغ للاعتكف بمكة ذلك العام.
فهذه ثلاثة أعوام لم يعتكف فيها في رمضان، بل قضى العام الواحد الذي أراد اعتكافه ثم تركه.
وأما الآخران فالله أعلم أقضاهما مع الصوم، أم لم يقضهما مع شطر الصلاة، فقد ثبت عنه أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم».
وثبت عنه أنه قال: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة».
أي الصوم أداء، والشطر أداء وقضاء، فالاعتكاف ملحق بأحدهما.
ولم ينقل عنه أنه قضى اعتكافاً فاته في السفر، فلا يثبت الجواز، إلا أنه لعموم حديث عائشة يبقى فيه إمكان والله أعلم.:grin: