ذكر الحافظ الذهبي في كتابه الممتع والمفيد ( سير أعلام النبلاء ) في ترجمة الزنديق الرافضي الحاكم العُبيدي أنه في يوم من الأيام : ( وكان الخلق في ضنك من العيش معه ، صالحهم وطالحهم ، وكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بسبه والدعاء عليه ، لأنه كان يدور في القاهرة على دابة ، ويتزهد . وعملوا هيئة امرأة من كاغد ( أي من ورق ) بخف وإزار في يدها قصة ، فأخذها فرأى فيها العظائم ، فهم ب فإذا هي تمثال ) .
هذه القصة الحقيقية تُبين حال الناس قديماً في مصر , في كيفية إنكارهم للمنكر بحيث لا يصيبهم أي أذى أو يمسهم عذاب , من هذا الرافضي الكافر المدعي للربوية ! فهم بذكائهم وحسن تصرفهم يكتبون له الرسائل التي تزجره عن قبيح فعله , وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر , ويوصلونها إليه بدون أن يعرف من المرسل .
وأما اليوم وقد فتح باب الانترنت على مصراعيه , فيستطيع أي شخص يريد أن ينتقد أمراً محرماً ما , في أي حكومة أو دائرة حكومية , أو في أي دولة إسلامية بكل يسر وسهولة , فما عليه إلا مراسلتهم والكتابة لهم عبر بريدهم بما يراه مناسباً تبرا به الذمة .
فهذه دعوة عامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , عبر الانترنت لكل مسلم غيور على دين الله , يريد أن ينصر الحق وأهله ويقمع الباطل وأهله .
ولكن نذكر بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . قال سفيان الثوري – رحمه الله – : ( لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث : رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه ، عالم بما يأمر به عالم بما ينهى عنه ) .
وأما العنف والزجر فقد يحتاج إليه الآمر بالمعروف , عند معرفته أن صاحب المنكر قد تمادى ولا يبالي بكثرة الإنكار عليه , بحيث لا يرتدع إلا بالزجر والتغليظ عليه في القول . ذكر هذه المسألة ابن النحاس الشافعي في كتابه ( تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ) .
مقال رقم (17)
[ حرية الرأي عند صناديد قريش ! ]
عاش رسول صلى الله عليه وسلم في مكة بين قبيلة قريش ( 13 ) سنة , يدعوهم إلى الإسلام , ويتلوا عليهم القرآن الكريم , ويرد على شبههم, وينتقد آلهتهم , ويصلي ويطوف في المسجد الحرام أمامهم .
ولم تحصل له المضايقات التي سببت له الهجرة إلى المدينة النبوية , إلا بعد أن أكثر عليهم الكلام , وأطال في دعوتهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده , ونبذ الشرك وما سواه من خرافات دينهم ومعتقداتهم .
هذه الصورة تبين مدى مجال الدعوة في قبيلة قريش , أهل الجاهلية الذين يغلب عليهم الأمية وندرة التعليم والتخلف الحضاري .
وأما اليوم فالكثير بل قد يُقال كل الحكومات العربية والإسلامية , تضيق ذرعاً , ولا تتحمل الدعاة إلى الله والنقاش معهم في مطالباتهم ورغباتهم وخاصة في الأمور السياسية وشؤون الدولة مدة ( 13 ) دقيقة فقط ! هذا مع ادعائهم العلم , والتطور , والتحضر , وقبل هذا الإسلام !.
فكم من مقتول ومسجون ومعذب في غياهب السجون – لا يعلم بهم إلا الله -بسبب قول أو رأي فقهي أو سياسي له حض من النظر والدليل الشرعي ؛ وكأن هؤلاء الحُكام والحكومات يمت لهم صله بشارون , أو جنكيز خان , أو بقايا النصارى الذين نكلوا بمن بقي من المسلمين في الأندلس .
فيا سبحان الله ! ما أشبه اليلة بالبارحة .. فوالله إن هذا ليذكرنا بقول الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – , في رسالته المشهورة بالقواعد الأربع , حينما قال : ( أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين , لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة ، ومشركوا زماننا شركهم دائم ؛ في الرخاء والشدّة. والدليل قوله تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا الَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت:65] ) .
ونحن نقول قريباً من قوله : ( أن حكومات بلادنا العربية والإسلامية اليوم مع الدعاة إلى الله , أغلظ طبعاً وأضيق صدراً من صناديد قريش ) .
مقال رقم (18)
[ وقفه مع تحجير وتقيد الفتوى في السعودية ]
لن أخوض في قضية تحليل فلان للغناء وتبعاتها , ولا في فتوى فلان في إثارة رضاع الكبير بين العوام الجُهال , ولا فتوى فلان في كذا وكذا .. الخ .
بل سوف أنبه إلى أمر وشيء مهم , إلا وهو هدي بعض الخلفاء والسلاطين والأمراء الصالحين , الذين كان يهمهم اتزان الشارع الإسلامي أمام المسائل الدينية , حتى لا يتأثر وينحرف في سلوكه وعقيدته ؛ من منطلق قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ )) .
ومن يقرأ في التاريخ الإسلامي , يجد أن الغالب على ولاة الأمور ، مطاردة وإيقاف بل وفي بعض الأحيان قتل أصحاب الأقوال ( العقدية ) ، التي ينشأ عنها بدعة مكفرة , أو مفسقة , وليس محاسبة أصحاب الأقوال ( الفقهية ) ، التي يتسع فيها مجال البحث والاختلاف . وأيضاً من تتبع مؤلفات العلماء في الردود , يجد أن اغلبها تدور على العقائد , وليس في الفقهيات التي ألف فيها بعض العلماء , كتباً سموها الخلافيات كالبيهقي , أو اختلاف العلماء كالطحاوي وغيرهم .
فمثلاً باختصار وبدون إطالة عن محاسبة أصحاب العقائد الضالة :
1/ قام أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – بضرب صبيغ التميمي , على قضية التشكيك والخوض في متشابه القرآن .
2/ تم قتل الجعد بن درهم على الزندقة والنفاق , من قبل الأمير خالد بن عبدالله القسري – رحمه الله –.
3/ شمَّر الوزير الهُمام حامد بن العباس – رحمه الله – , عن ساعد الجد في زمن الخليفة المقتدر بالله , فقتل الحلاج على النفاق بعد اخذ الفتاوى من الفقهاء ؛ قطعاً لفتنته بين العوام .
4/ في سنة 279ه أمر السلطان بغداد أن يُنادى في الناس , ألا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر؛ وحلَّف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة .
5/ استتاب أمير المؤمنين القادر بالله في سنة 408ه فقهاء المعتزلة من الحنفية , ونهاهم وتوعدهم بالعقاب الرادع عن الكلام , والتدريس , والمناظرة في الاعتزال , والرفض , والمقالات المخالفة للإسلام وأخذ خطوطهم بذلك .
إذاً وبكل بساطة واختصار , نحن نريد تحجيم وتضيق ومطاردة أهل البدع في السعودية , من الصوفية , والرافضة وغيرهم ممن لهم مؤلفات , وأشرطة , وفضائيات , ومواقع على النت يقولون فيها { مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } وليس الأمر محصوراً على خنق أهل السنة – وخاصة متدينيهم وصالحيهم – , الذين يُضرب على أيديهم , وتكمم أفواههم , ويتهمون في كل نادي ومجلس بما هم منه براء , وفي نفس الوقت يفتح الباب على مصراعيه , لكل من هب ودب , من سقط المجتمع السعودي وفُسّاقه وأراذله أصحاب المذهب السلولي ( نسبتاً لابن سلول ) , يتكلمون في المنتديات , والفضائيات , والمسلسلات , ويكتبون في الصحف , والمجلات , والمؤلفات بما ( يُدمي منه الأظل ، و يخرج معتقده إلى سبيل من ضل ) .
نعم , هذا هو الحاصل .. فكم فتنوا هؤلاء الئام النوكى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } من شاب وشابة ، بكفر أقوالهم , وكذب ألسنتهم , يزينون لهم الباطل ويلبسونه ثوب الحق ! ويلبسون الحق بثياب الباطل ! ويوهمونهم ب( لسان عليم ) أن ليس لكم طريق ولا نجاة إلا باعتناق البرالية , والعلمانية , وتحكيم الديمقراطية , وتحرير , ومحاربة التدين ودعاته .
ثم لا ننسى في هذا الصد , أن نبه إلى أن هيئة كبار العلماء ومن تختاره معها في الفتوى , يجب أن يكونوا على قدر المسؤولية أمام الله ثم الأمة , فكم من نازلة وبلاء تحل بالبلاد الإسلامية , لا نجد لهم فتوى أو صوت إلا آخر الأصوات , أو بعد فوات الأمر وتغير الأحوال ؛ ومن المعلوم – كما في علم الأصول – أنه : ( لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ) ومن لم يصدق ، فهذه نازلة جديدة – وقد مر قبلها نوازل – إلا وهي حرق المصاحف من قبل بعض القساوسة في أمريكا , لم نجد لهم بيان شافي , أو فتوى صادره من بلاد الحرمين الذي نزل فيه القرآن , بينما صاح من صاح من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها , تنديداً , وشجباً , وحمية لكتاب الله – والله المستعان -.