من الظواهر السلبية التي عمَّت كثيراً من بلاد المسلمين ظاهرة السهر إلى ساعات متأخرة من اليل، ذلك أننا – ولأسف الشديد – نجد من يسهر إلى ساعات متأخرة من اليل على أشياء حقيرة تافهة، بما يتضمن تضيعاً للأوقات الفاضلة، والتفريط فيما يتاح فيها من الخير، وحرمان نفسه من صلاة القيام في آخر اليل مما يكون فيه من بركات وكرامات وهبات، وتضيعاً لصلاة الصبح، وزهداً في عطاءات الله لعباده المصلين الداعين المستغفرين في الأسحار مما ينزل إليهم إكراماً وإنعاماً.
والسهر فيما لا نفع فيه قد نهى عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، حيث "كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها"1، وجاء في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: "ما نام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل العشاء، ولا سمر بعدها"2، ولما سمعت – رضي الله عنها – عروة يتحدث بعد العشاء قالت: "ما هذا الحديث بعد العتمة؟ ما رأيت رسول الله راقداً قط قبلها، ولا متحدثاً بعدها، إما مصلياً فيغنم، أو راقداً فيسلم"3.
وكان – عليه الصلاة والسلام – يذم السهر، ويحذر منه، ويزجر عنه فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: "كان رسول الله يجدب – يذم ويعيب – لنا السمر بعد العشاء"4، وقال – عليه الصلاة والسلام : ((إياك والسمر بعد هدأة الرجل))، وفي رواية: ((بعد هدأة اليل، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله في خلقه))5، وعن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – "أن رسول الله كان يستحب أن يؤخر من العشاء، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها"6؛ يقول ابن حجر – رحمه الله – ذاكراً العلة في ذلك: "لأن النوم قبلها – أي العشاء – قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقاً، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام اليل، وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يضرب الناس على ذلك، ويقول: "أسمراً أولَ اليل، ونوماً آخرَه؟!".
وإذا تقر أن علَّة النهي ذلك فقد يفرق فارق بين اليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تحمل الكراهة على الإطلاق حسماً للمادة، لأن الشيء إذا شرع لكونه مظنة قد يستمر فيصير مئنة" انتهى كلامه – رحمه الله تعالى –7، ويقول الإمام النوي – رحمه الله -: "واتفق العلماء على كراهة الحديث بعد العشاء إلا ما كان في خير"8.
وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسمر أحياناً في بعض مصالح المسلمين كما يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "كان رسول الله يسمر عند أبي بكر اليلة في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه"9، وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصلٍ أو مسافر))10، وأخرج أبو يعلى عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: "السمر لثلاثة: لعروس، أو مسافر، أو متهجد باليل"11.
وعليه فخلاصة القول في السهر أنه مذموم إلا إذا كان فيه مصلحة؛ كمؤانسة أهل، أو محادثة ضيف، أو مدارسة علم، أو قيام ليل، أو محاولة إيجاد حلول لمشاكل هذه الأمة، والسعي في رقيِّها، أو ما أشبه ذلك.
والسهر مذموم في حق الكبار والصغار، ولكننا هنا نخص بالذكر "سهر الأولاد في رمضان"، في سهرهم إضافة إلى ما سبق من المفاسد؛ أنهم إذا سهروا فقد لا يذهبون للدراسة، وإن ذهبوا فسيبقون في المدرسة يصارعون النوم، ولا يعون ما يلقى عليهم من الدروس، لأن في السهر إرهاق للبدن وما أشبه ذلك.
ومشكلة سهر الأولاد في اليل مشكلة كبيرة تتطلب من الجميع البحث عن أسبابها، والدوافع التي تدعو إليها، ومن ثم التفكير بجدية في وضع الحلول المناسبة والعلاج الناجع للقضاء عليها، والتخلص من سلبياتها وأضرارها؛ لأن تلك المشكلة لها أضرار عظيمة جسيمة ليست على الأولاد فقط؛ بل تمتد إلى أسرهم ومجتمعاتهم، وطنهم وأمتهم؛ قلَّة في البركة، ونقص في الأنفس والأموال والأرزاق، وتعطيل للطاقت والإمكانيات، ونشر للبطالة والكسل، وتعود على سفاسف الأمور، وإلْف لها، وضعف عن المعالي وإحجام عنها، مما يؤدي إلى احتراف هؤلاء الأولاد للسرقة وبيع المخدرات والمسكرات، والبحث عن المال من أي وجه – ولو كان محرماً -، وعزوفهم عن الزواج إلى الزنا والواط، وتركهم مجالس الرجال والأخيار، ومصاحبتهم الفسقة والفجار، وتلك أمور مشاهدة ظاهرة للعيان، لا يحتاج من يتكلم فيها إلى استشهاد أو ذكر برهان.
فلنتق الله – أيها الآباء وأولياء الأمور – في أولادنا ومن نعول فإننا عليهم مؤتمنون، وعند الله عن هذه الأمانة مسؤولون، وعلى تفريطنا وتهاوننا نادمون، وإن هذه القنوات والأجهزة المدمرة للعقول والأخلاق، وتلك السيارات التي يجوب الأولاد عليها الشوارع، ويؤذون بها الناس في حركات مزرية، والأموال التي ملأت جيوبهم وأنفقوها في شراء ما لا يرضي الله، وتلك الغرف المهيئة المكيفة التي تعينهم على ترك الصلاة، واتباع الشهوات، وما إلى ذلك من الأمور؛ قد هيأت للأولاد معصية الخالق – تبارك وتعالى -، وجعلتهم يسهرون اليل، وينامون عن الصلاة.
إن تلك الأمور من عند الآباء لا من عند غيرهم، فهم الذين هيؤوا لهم أسباب الفساد والانحراف، ومهدوا لهم السبل ليتهاونوا بشعائر الله وحرماته، أفيُلام الأولاد بعد ذلك على ما يحصل منهم، أما إنه لا لوم عليهم ولا تثريب حيث نشؤوا في أجواء لا تساعدهم على طاعة الله، وخرجوا في ظروف لا تعينهم على تقوى الله.
إن الأعداء يعدُّون المخطات لإخراج أولادنا – بل لإخراجنا جميعاً – من ديننا، وفصلنا عن أخلاقنا وقيمنا ومبادئنا، ونحن في غفلة شنيعة عما يراد بنا، بل إن بعض الآباء – هدانا الله وإياهم – هم من يهيئون لأولادهم سبل الفساد، ويمدونهم بطرق الغواية وذلك بإهمالهم، وعدم تربيتهم التربية الصحيحة.
فعلينا معاشر الآباء أن لا نعجز عن أن نأخذ على أيدي أبنائنا، ونمنعهم من السهر على ما لا ينفعهم، ونكف عن عباد الله عدوانهم وأذاهم، ونوجههم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، ولو فعلنا ذلك لوجدنا ثمرة اجتهادنا في صلاح أولادنا، ولو تعاونَّا في ذلك وتآزرنا لنفع الله بنا وبأولادنا الأمة، ولخرجوا أجيالاً صالحة مصلحة تنفع أنفسها، وترقى بأمتها إلى درجات الفلاح.
فلنتجنب السهر فيما لا فائدة فيه، ولنجنب أولادنا ذلك، نسأل الله – تعالى – أن يصلح أحوالنا وأحوال نساءنا وأولادنا، وأن يرفع عنا كل داء، إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
<DIV align=center><FONT color=red><FONT face=arial>منقول للفائدةDIV!- / message –>