هي الدنيا تقول لساكنيها حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام فقولي مضحك والفعل مبكي
فإن ينصت الناس لمفكر وشيخ وعالم وداعية فهذا ممكن وربما كان واجباً, أما أن ينصت الناس لبغي زانية ثم يصدقوها فيما تدعي وتزعم وينطلقوا بغير هدى قد سكن قلوبَهم كلامُ امرأةٍ فاجرةٍ فهذا والله من العجب العجاب!
وأنا مضطر لتأخير خبر هذه البغي حتى آتي على ما أريد من موضوع تربوي أخلاقي خاصة في وقتنا هذا الذي انتشر فيه القيل والقال وذهب عن كثير من الشباب الأمر بالتبين والتثبت في الأخبار, فكم نهشت الأعراض لكلمة قيلت، وكم فُضحَ الناسُ بسبب دَعيٍّ محافظٍ على الأمن هَمُّهُ الأكبر كتابة التقارير دون رحمةٍ أو خُلُقٍ أو نصيحةٍ للمؤمنين.
إنَّ الذين يبحثون عن عورات الناس ويتلصصون على بيوت المسلمين ويتجسسون بالسوء على عباد الله بقصد تصيد الأخطاء والتقاط الهفوات، يُخْشَى على أحدهم من أن يعامل بالمثل، فكما تدين تدان والجزاء من جنس العمل: "فإنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ"
إذاً فليتق الله الذين يلوكون أعراض الناس بأفواههم ويتندرون بحكايات وقصص عباد الله، فاليوم دنيا فيها عمل بلا حساب وغداً يوم القيامة حساب بلا عمل, والناقدُ هناكَ بصيرٌ لا تخفى عليه خافية.
والذي دفعني لكتابة هذا المقال- يعلم الله – كثرة ما يدار في مجالس بعض الشباب من كلام لا يمت بصلة للأخلاق التي تربينا عليها وأمرنا مشايخنا بالتحلي بها، وما زلت أذكر إلى اليوم شيخنا الشهيد – نزار ريان رحمه الله وهو يأخذ بأيدينا لنمسك لساننا عن الخوض في أعراض بعض من اشتهر بفسق وفجور ويقول: ما يضرنا فِسْقُهُ لنفسه ولْنُشْغِلْ لسانَنَا بذكر الله تعالى.
فيا سبحان الله، لقد بلغت الأخلاق بأصحابها حتى سموا عن غيبة مشاهير الفسقة والفجور، فما بال بعض الناس اليوم لا يتورعون عن ذكر قيادتهم بسوء بسبب لعاعة من لعاعات الدنيا ذهبت لزيد أو عمرو, وقد قيل للرَّبيع بن خثيم رحمه الله: مالك لا تذم الناس؟ فقال: والله ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغَ من ذمِّها إلى ذَمِّ غيرِها, إنَّ الناسَ خافوا اللهَ في ذنوبِ غيرهِم وأمِنُوهُ على ذنوبِهم" فيا سبحان الله ما أروع هذا الكلام وكأنه يخرج من مشكاة النبوة.
وتعالوا معي الآن بعد هذا الاطراد المهم إلى قصة البغي التي تكلمت من هي؟ وما قصتها؟ وكيف سمع لها الناس وأنصتوا وهي بغي زانية معروفة بالفجر والفسق والعياذ بالله تعالى؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ "قدْ تذاكَرَ النَّاسُ عبَادَتهُ" فَقَالَتْ امْرَأَةٌ – زَانِيَةٌ-، -بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا- لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى – فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا- فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ: مِمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ صَاحِبِ الدَّيْرِ, فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ قَالَ فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ, وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ؟ قالوا: "سَلْ هَذِهِ" زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ, فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ َقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ فُلانٌ الرَّاعِي, فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ وَقَالُوا نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا".
عجيب والله أمر هؤلاء الناس يعرفون جريجاً من سنوات طوال بعبادته وطاعته لله تعالى قد ترك للناس الدنيا خيرها وشرها وانعزل بصومعته ما جلب للناس شراً ولا خيراً سوى انعزاله عنهم ومما يزيدنا عجباً أنهم يعلمونها زانية ويدعونها بذلك!
ورحم اللهُ أمَ جريج فقد كان قلبها قاسٍ يوم دعت على ولدها المعروف بعبادته عند قومه حتى إنهم يتذاكرون عبادته, والآن امرأة زانية بغي فاجرة تتوعد عابدهم بالفتنة فيوافقون دونما يقول أحدهم لها: اتق الله ودعيه من شَرِّك, ولكنه الهوان والذل والصغار الذي سكن قلوبهم بسبب غفلتهم وبعدهم عن ربهم تبارك وتعالى, ومع هذا تركوها لفعلتها ولم تدرك مرادَها وعادت بحيلتها متهمةً العابد جريجاً قائلة حين سُئلت ممن الولد؟ هو من جريج!
وهنا تكلمت بغي زانية معروفة بالفسق والفجور في حق من؟ في حق تقي نقي عابد زاهد تارك للدنيا وزينتها ومع ذلك أنصت لها الناس وصدقوها وانطلقوا لا يلوون على شيء قد أنساهم ضلالهم سنوات العبادة لجريج وأنساهم شيطانهم سنوات الطاعة والخير والعزلة التي فيها جريج, فما أقبح من سَلَّمَ زمامَ عقلِه لآلةِ إعلامٍ معروفةٍ بالفسقِ والفجورِ, بضاعتها الزناة والبغايا!
وانطلق الناس بعدما استجابوا لبغي دون تثبت أو تبين، وذهبوا لصومعة جريج العابد فهدموها على رأسه وهم يسبونه ويضربونه ويسمعونه عبارات قبيحة لا تليق بمن نذر نفسه لطاعة الله بعيداً عن عيون الناس, وهو المسكين يسأل ما الخبر، ما الأمر؟ حتى قالوا: زنيت وهذا ولدك من هذه!
وكأني به يقول: هذا ولدي ممن؟ من هذه الزانية البغي التي تعرفونها ! ويحكم يا قوم، أين عقولكم ألا تعرفوني بخيري وتعرفونها بشرها؟ والله ما أمسك لساني عن ذكر سوئها إلا تقواي لله وانشغالي بنفسي عنها وعن غيرها, وعندي من العلم عنها وعن غيرها الكثير، ولكنَّ الله عصمني من أن أنال أعراض الناس بسوء، أو أسعى لفضحهم وكشف سوئهم, ولكنه الجهل وقلة التقى الذي سلك بكم أودية المهالك فنهشتم الأعراض وأظهرتم السوءات، وكشفتم السيئات وأحببتم أن تشيع بين الناس الفاحشة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
ما أقبح العقول وما أسفه أصحابها حينما ينصتون لإشاعات الناس عمن يعرفون فيصدقون دون تبين! ويعتقدون دون سؤال وتثبت!
وينقسم السامعون للشر في نظري إلى أربعة أقسامٍ لا خامسَ لهم باختصار:
الأول: المدافع عن أعراض الناس
وهذا الذي هدى الله قلبه وشرح الله صدره ومكنه من نفسه وأبى أن يجعل من نفسه أذن شر فلم يحل لنفسه أن يسمع عن إخوانه السوء؛ بل إنه حين يسمع عنهم ما يكره ينبري قائلاً للمتحدث: اتق الله، هذا لا يحل لك، فيرد عن إخوانه غيبة الناس, وليهنأ هذا الكريم وأمثاله بما رواه الترمذي رحمه الله عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الثاني: المتعفف عن سماع الشر عن الناس
وهذا هو النوع الثاني من سامعي الشر عن الناس وهو الذي إذا ما ذُكِرَ أمامه أحدٌ بسوء لا يقوى على المدافعة ولا على إسكات المغتاب خشيةً من سلطانه أو خوفاً على نفسه أو أن نفسه لا تقوى على المجادلة بالحق, فالذي يفعله أنه يقوم مسرعاً ولا يجلس مع ناهشي أعراض المسلمين ولا مع آكلي لحوم المؤمنين, وهذا مع أنه ضعف غير أنه ضعف فيه خير, وقد فعل ما أمر الله به عند رؤية المغتابين فكيف بسماعهم والجلوس معهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وقد ثبت في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ" والمتعفف عن سماع الشر عن الناس عابد طائع لله تعالى فيما أمر سبحانه بالإعراض عنهم وأمر كذلك بألا نَقْعُدَ: {مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.
الثالث: الجالس السامع بأذنه دون إنكار أو هروب
والنوع الثالث من الناس هو الذي حُبِّبَ إليه سماعُ الغيبة والنميمة وينتشي عندما يفتضح الناس قد كُسِيَ قلبُهُ حسداً وغلاً على ما تفضل الله به على بعض عباده, فما أن ينال واحد من المغتابين مؤمناً حتى يشنف أذنه ويُرْخِي قلبه سماعاً وإنصاتاً لما يقال عن عباد الله دون إنكارٍ أو هروب من مجالس الغيبة الحرام.
وهذا مع أنه ما تكلم وما شارك فعلياً لكنه بجلوسه كَثَّرَ سواد المغتابين وزاد من عدد الناهشين للأعراض ولم يطع الله في المدافعة عن أعراض المسلمين ولا قام فزعاً هارباً من مجالس السوء والحرام ولكنه قعد وجلس وافترش الأرض وفتح قلبه وأذنه للسماع وهو إن سئل قال متبجحاً: لم أتكلم إنما سمعت!
وهو مع سكوته آثم يلحقه الوزر لأنه مأمور ألا يقعد مع هذا الصنف من الناس النشاز ومأمور بالإعراض عن مثل هؤلاء المستهترين بسمعة البشر، ولكنه جلس وقعد واستمع وسكت عن قول: {اتَّقُواْ اللّهَ} فهو إذاً شيطان أخرس, يستحق هو وكل الجالسين لسماع المتندرين بأعراض المؤمنين أن يقرعوا بقول الله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
الرابع: الخائض في الأعراض المنتهك للحرمات
وهذا النوع الرابع من الناس هو المنتظر للوقائع المتصيد لأخطاء المنتظر لفتح باب الشر حتى يلج فيه ويوغل, فما إن يقال عن إنسان كلمة حتى يزيدها كلمات وجملاً ويبني عليها حكايات وقصصاً عمدته في ذلك كله: سمعت, وأظن, وربما ويحتمل, وهكذا من هذه العبارات التي يصل بها إلى تدمير النفوس وسحق الإنسان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وما الإنسان أصلاً إلا كتلة من المشاعر والأحاسيس، فإذا جُرِحَ قلبُه فلا أظن أنَّ جرحه سيلتئم:
جروحُ السنانِ لها التئامٌ ولا يلتئمُ ما جرحَ اللسانُ
وهذا الخائض في الأعراض المستكثر من الحرام المستزيد من الإثم، لا يظن أنه بمنأى عن ألسنة الناس، فإن من تكلم عن الناس سيتكلم الناس عنه جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً, لئن فلت من الناس فإن هناك يوم القيامة يوم يجتمع الخصوم ويُقْتَصُ من الظالمِ للمظلومِ.
وختاماً:
ألا فليتقِ اللهَ تعالى منْ سعَى في خرابِ البيوتِ بكلمةٍ يقولُها وليمسكْ لسانَه الخائضُ في أعراضِ الناسِ بالحرامِ, فاليومَ عملٌ بلا حسابٍ وغداً حسابٌ بلا عملٍ والخصمُ يومَ القيامةِ منْ لا تَخْفَى عليه ذرةٌ في السماواتِ ولا في الأرضِ.
الله يرحمنا برحمته
و جزاك الله خير