قال القرطبي –رحمه الله -:" قوله تعالى:"ويخرون للأذقان يبكون"هذه مبالغة في وصفهم ومدح لهم وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة فيخشع عند استماع القرآن ويخضع ويذل قال وفي الآية دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى أو على معصيته في دين الله وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها ". أحكام القرآن للقرطبي ج10ص341
كان عبد الأعلى التيمي يقول :"من أوتي من العلم مالا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه لأن الله تعالى نعت العلماءفقال:" إن الذين أوتوا العلم… الى قوله يبكون ويزيدهم خشوعا". المرجع السابق وانظر زاد المسير لابن الجوزي ج5 / 98.
"وإن مايحصل عند الاستماع لآيات الله والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين واقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التينطق بها الكتاب والسنة ". الفتاوى لابن تيمية 22 /522.
قال تعالى:"الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء"}سورة الزمر, الآية: 23 {وقال تعالى:"إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا"}سورة مريم , الآية:58{.قال القرطبي رحمه الله :"في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثير في القلوب". أحكام القرآن 11 / 120.
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم:
كان بكاؤه صلى الله عليه وسلم من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها وتارة من خشية الله وتارةعند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية. زاد المعاد لابن القيم 1 / 183
قال ابن مسعود رضي الله عنه:قال رسول الله ": صلى الله عليه وسلم إقرأ علي :فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري.فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية"فكيف إذا جئنا من كل أمةبشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" فقال حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان "رواه البخاري ومسلم. .
وبكى صلى الله عليه وسلم لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وبكى لما مات عثمان بن مظعون وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وكان يبكي أحيانا في صلاة اليل المرجع السابق 1/ 183 – 184.
وعن ثابت البناني عن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل – يعني يبكي" رواه أحمد والنسائي وأبوداود. والبيهقي في الشعب وصحه الألباني.
الأزيز: حنين من الجوف وهو صوت البكاء.
والمرجل: بكسر الميم الإناء الذي يغلي فيه الماء سواء كان من حديد أوصفر أو حجارة سن النسائي شرح الحافظ السيوطي 3 / 13..
قال في الفتح الرباني :والمعنى أنه يجيش جوفه ويغلي من البكاء من خشية الله تعالى. الفتح الرباني 4 / 111
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت" صحيح الجامع رقم 3723.
وكانت قراءته صلى الله عليه وسلم تصدع القلوب وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال:سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلم يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه وفي بعض ألفاظه فلما سمعته قرأ"أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون"} سورة الطور الآية :35{ كادقلبي أن يطير قال ابن كثير-رحمه الله- وكان جبير لما سمع هذا لم يزل مشركا على دين قومه وإنما كان قوم في نداء الأسارى بعد بدر وناهيك عن تؤثر قراءته في المشرك المصرعلى الكفر فكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع من القلب وعن طاوس قال :"أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله" تفسير ابن كثير ج7ص482.
بكاء الصحابة رضوان الله عليهم:
صلى علي رضي الله عنه صلاة الفجر فلما سلم إنفتل عن يمينه ثم مكث كأن عليه كآبة حتى إذاكانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قلب يده فقال:لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحدا يشبههم والله إن كانوا ليصبحون شعثا غبرا صفرا .بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح فأنهملت أعينهم حتى تبلوالله ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين التبصرة لابن الجوزي.
وعن عروة بن الزبير قال قلت لجدتي أسماء كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوالقرآن ؟
قالت :"تدمع عيونهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله" شعب الإيمان للبيهق2 / 365.
هذا هو حال الصحابة – رضوان الله عليهم – لم يكن هم أحدهم آخرالسورة ولم يكن همه عدد ما يختم من القرآن.
مواقف بعض الصحابة عند تلاوة كتاب الله:
وكان من هدي الصحابة رضي الله عنه التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ترديد آيات الله فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال:صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "}سورة المائدة ,آية :18
فلما أصبح قلت يا رسول الله مازلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا. رواه النسائي وابن ماجة.
وقد مر بنا أن عائشة –رضي الله عنها- كانت تردد قوله تعالى:"فمن الله علينا وقانا عذاب السموم"}سورة الطور آية 27{.
وقام أبو الدرداء رضي الله عنه ليلة بآية حتى أصبح وهي "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا محياهم ومماتهم" } سورة الجاثية ,آية 21 .
وردد ابن مسعودرضي الله عنه "رب زدني علما" التبيان للنوي }سورة طه,آية:114.
وعن صفوان بن سليم قال :قام تميم الداري في المسجد بعد أن صلى العشاء فمر بهذه الآية :"تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " }سورة المؤمنون,آية:104{فما خرج منها حتى سمع آذانالصبح. صفوة الصفوة 1 / 375
وأتى تميم الداري المقام فاستفتح الجاثية فلما بلغ "أم حسب الذين إجترحوا السيئات " الآية.}سورة الجاثية, آية:21{جعل يرددها حتى أصبح مختصر قيام اليل 65.
وقام عمرو بن عتبة بن فرقد ليلة فاستفتح حم فأتى على هذه الآية" وأنذرهم يوم الآزفة"}غافر,آية:18{فما جاوزها حتى أصبح صفة الصفوة