أسلوب القرآن في هذا الموضع:
جاء أسلوب القرآن على هيئة مواد قانونية دون أن تخلو من مزجها التربوي التزكوي الرائع الفريد بنور الموعظة، وجمال التأثير العاطفي، ولنلق نظرة واعية على سلاسل النور القرآنية في هذا الموضع:
أولاً: الأسس العامة لنظام الصيام: تكون من ست مواد:
المادة الأولى: فرض الله الصيام، وهو توحيد عبادي كما فُرِض على من قبلنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183].
المادة الثانية: الغاية الكبرى للصيام وأعظم أهدافه: التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فتستنير قلوبكم وعقولكم بما به تؤمنون، وتقومون بحقوق الخالق وحقوق الخلق وأنتم محسنون.
والصيام يعلم التقوى لأن أساس التقوى الصبر على الطاعات وعن المعاصي وعلى الأقدار، والصيام يعلم ذلك كله، وعند أحمد والترمذي وحسنه عن رجل من بنى سليم قال: عدهن رسول الله صلى الله عليه و سلم في يدي أو في يده: ((التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر والطهور نصف الإيمان))، ولذا جعله الله يقي من الشهوات كالجُنَّة وهو الدرع الذي يحمي في الحرب، فعند البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَال: ((يقول الله عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة)).
المادة الثالثة: المدى الزمني للصيام { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] فليس كبيراً.
المادة الرابعة: الصيام لنفع العباد لا لتعذيبهم، ولذا يُعذر أصحاب الأعذار:
وهم ثلاثة أصناف:
الصنف الأول والثاني: المستطيعون للصيام لاحقاً فهؤلاء يفطرون ويقضونه، وهم صنفان: المرضى مرضاً مؤقتاً-والمسافرون {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
الصنف الثالث: من أطاقه بمشقةٍ عظيمةٍ: وهم كبار السن، والمرضى مرضاً لا يرجى برؤه، والعمال، فهؤلاء يفدون عن كل يوم طعام مسكين{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184].
المادة الخامسة: تطوع الصيام أو تطوع الإطعام خيرٌ للمتطوعين في الدنيا والآخرة {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184].
المادة السادسة: نظام الصيام ليس للتعذيب بل للتدريب والتهذيب، فهو نظامٌ لصالح العباد صحياً ونفسياً وإيمانياً {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]:
وهذه خاتمة لبيان سبب عام لتشريع الصيام، وعند أحمد عن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فقلت: مرني بعمل يدخلني الجنة قال: ((عليك بالصوم فإنه لا عدل له))، و(خير) هنا ليس للتفضيل بل للاستبداد بمعنى أن الصوم يحمل كل خيرٍ لكم، وتركه، أو التلاعب به بعدم تأديته على ما أمر الله يذهب بهذه الخيرية.
ثانياً: النظام التفصيلي للصيام: تكون من عشر مواد:
المادة الأولى: وقت الصيام المفروض: {شَهْرُ رَمَضَانَ}[البقرة: 185].
المناسبة والاتصال:
1) بعد أن ذكر الله تعالى أن الصيام { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أراد أن يبين موعدها وهو شهر رمضان، والحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن.
2) قال ربنا عز وجل أولا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}[البقرة:183] وهذا محتملٌ ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة:185] فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان، والحكمة في ذكر الأيام مبهمة أولا وتعيينها بعد ذلك: أن ذلك الإبهام الذي يشعر بالقلة يخفف وقع التكليف بالصيام الشاق على النفوس.
المادة الثانية: سبب تخصيص رمضان بالصيام: القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: 185]:
فالصيام والقرآن هما الشفيعان القرينان، والقرآن نزل في شهر رمضان، فأمر الله بصيامه، فعن عبد الله بن عمرو –فيما رواه أحمد والطبراني-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان له)).
ولشدة الحفاوة بالقرآن في شهر الصيام وصف الله القرآن هنا بثلاث صفات:
الصفة الأولى: {هُدًى لِلنَّاسِ} رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ والسعادة في الحياة.
الصفة الثانية: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} واضحات من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه.
الصفة الثالثة: {وَالْفُرْقَانِ} والفصل بين الحق والباطل.
وسبب الاستطراد بذكر صفات القرآن قبل الأمر بصوم الشهر:
أن الله تعالى ابتدأ هنا بذكر شهر رمضان وإنزال القرآن فيه، ووصف القرآن بما وصفه به حتى كأنه يحكي عنه لَذاته بعد الانتهاء من حكم الصوم، ثم ثنى بالأمر بالصيام فلم يفاجئ النفوس به مع ذلك التمهيد له حتى قَدم العلةَ على المعلول.
المادة الثالثة: صوم رمضان فرض لمن شهد الشهر: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185].
المادة الرابعة: يقضيه أصحاب الأعذار وفق ما سبق: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 185].
وأعاد ذكرهم:
1) لأن ما سبق كان كلاماً عن الأسس العامة للصيام، وهنا كلام عن رمضان وأهميته.
2) قيل لما كان النسخ للتخيير بين الصيام والفداء خاصةً، أعاد الرخصة للمريض والمسافر، لئلا يُتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة، أو أنها لا تحمد فيه "ولولا ذلك ما أتاها متق لله في صيامه".
المادة الخامسة: أهم أهداف الصيام سبعة:
1) الصيام يعد لمرتبة التقوى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183]، وقدمه عن بقية الأهداف لأنه هدف الأهداف وغايتها.
2) الصيام يبرز اليسر في الحياة والدين: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185]، واليسر في الصيام ذاته كتشريع لأنه يقوم النفس ويهذبها ويزكيها، ويبين لها سبيلاً لازماً في المجاهدة، كما يبين لها سبيلاً لصحة الجسم، وصفاء الروح، وهذا عند من يقوم برمضان حق القيام، واليسر أيضاً في التشريعات التفصيلية له كما في عذر أصحاب الأعذار.
3) اعتياد الانضباط بإكمال العدة: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}[البقرة: 185].
4) تعظيم أرحم الراحمين: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}[البقرة: 185].
5) شكر الله الذي يسعد الدنيا بالدين:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185].
6) القرب المباشر من رب العالمين، ودعاؤه{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186].
7) الوصول إلى الرشد الفردي والجماعي{ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186]، مما يترتب عليه صلاح الفرد والجماعة، وصواب القرارات الشخصية والعامة ضمن ميدان الابتلاء في هذه الحياة.
إعجاز وبيان: لماذا وسَّط ذكر الأهداف وبثها بين مواد الصيام وأحكامه؟:
1) لتُذكر وتستحضر، فلا تطغى عليها الأحكام التي هي وسيلة إليها.
2) لئلا يهمل الناس الغاية مشتغلين بالوسيلة.
من أسرار الترتيب القرآني لآيات الصيام في فهم القفال الشاشي -رحمه الله-:
قال القفال رحمه اللّه: "انظروا إلى عجيب ما نبه اللّه عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت.
ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم ، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف.
ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبداً أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة.
ثم بين رابعاً: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة.
ثم بين خامساً: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا".
أ. د. عبدالسلام مقبل المجيدي