السبت 08 ذو القعدة 1445الموافق 16 أكتوبر 2024
مما وصف الله تعالى به عباد الرحمن أنهم يقولون : (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(الفرقان: من الآية74)
وهذه صفة للمنتخبي المنتجبين من عباد الله الصالحين الذي وصفهم أول ما وصفهم بأنهم يمشون على الأرض هوناً ، فلا طيش ولا إزعاج ولا استكبار ، نفوس مطمئنة ، وعادات حسنة في المشي وفي قيادة المركبة أو الدابة ، وفي سائر التعاملات والمسالك .
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)(الفرقان: من الآية63) ، فليسوا طرفاً في المجادلات والمنازعات الجاهلة التي تنتصر فيها الناس لأنفسهم المريضة التي تأبى إلا إظهار التفوق وأن تكون لها الكلمة الأخيرة .
وحين يقولون " سَلاماً " فهم لا يُبكّتون خصومهم أو يظهرون أنهم أفضل منهم وأحسن حالاً ، كما يقع لقوم يُجْرُون الفظ الشرعي على ألسنتهم ويغفلون عن حقيقته ومقصده ، فإذا ظنوا أن أحداً تجاوز عليهم أو اعتدى أشاحوا عنه وصاحوا :
– سَلاماً .. سَلاماً ..
وهم يقصدون بذلك أن يقولوا لخصومهم : أنتم من الجاهلين ونحن من عباد الله الذين يمشون على الأرض هوناً !
فليس هذا من التفوّق الأخلاقي الحقيقي في شيء ، بل هو تمثيل وادّعاء .
والآية تشير إلى " القول السلام " وليس مجرد الفظ ، وهذا يشمل الاستغفار لهم, والدعاء والعفو والصلح والابتسام ومقابلة السيئة بالحسنة ، ويشمل السكوت أحياناً ..
إنه ليس من السلام في شيء أن يجهل عليّ إنسان فأقول :
إِذا نَطَقَ السَفيهُ فَلا تَجِبهُ فَخَيرٌ مِن إِجابَتِهِ السُكوتُ
فَإِن كَلَّمتَهُ فَرَّجتَ عَنهُ وَإِن خَلَّيتَهُ كَمَداً يَموتُ
فأنا هنا لم أسكت ، ولم أجاز السيئة بحسنة ، بل بسيئة مثلها؛ إذ وصفته بالسفه وكفى بهذا انتصاراً ، أو أن أقول :
وَلقدْ أمر على الّئيمِ يسبُّني فمضيْتُ ثُمَّت قُلْتُ : لا يعْنينِي !
فها قد وصفته بالئيم ، وصفت فعله بالسب ، وادّخرت لنفسي موقعاً متفوقاً بمجرد أن لدي ثروة لغوية من هذه الألفاظ والأبيات التي لا يحسنها !
إن تجرع الغيظ والمرارة والتدريب على البشاشة والصفح والعفو والإعراض والنسيان هو المقصد الأخلاقي الأعظم, وليس توظيف الألفاظ والنصوص لتحقيق المزيد من المكاسب والانتصارات في معركتي مع الآخر !
ولعله من هذا الباب الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الَّهِ صَلَّى الَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ"وفي رواية لهما:" إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"
وقد تكلم أهل العلم هل ينطق بها بلسانه ، أو المعنى أن يقوله في نفسه ؛ ولهذا التردد أتى البخاري في ترجمته بالاستفهام؛ فقال " باب هل يقول إني صائم إذا شتم ؟ وقد جزم الإمام المتولي الشافعي بأن يقول ذلك في نفسه ونقله الرافعي عن الأئمة ..
والأقرب والله أعلم أن المقصود مخاطبة نفسه أولاً , سواء كان الصوم فرضاً أو نفلاً ، لأن الصوم يردع صاحبه عن الفحشاء و « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ » كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة .
فمقصد العبادة التربية الأخلاقية , وحفظ البيئة الاجتماعية من التشاتم والتساب وتبادل الألفاظ الرديئة !
إن الذي نطق بلسانه قد يغلبه الموقف , ويحمله الاندفاع أن يتكلم بكلام يندم عليه , ورب كلمة تقول لصاحبها دعني ، ولعل الكلام كثيراً ما يكون أشد من وقع السيف ، والكلمة مثل الرصاصة إذا خرجت لا تعود ، وإذا خرجت فربما جرحت أو قتلت أو أصمت أو أدمت !
على أني أتعجب أكثر من كلمات مسطورة مكتوبة؛ يسع الإنسان أن يراجعها ويعيد النظر فيها ، والكتابة غالباً أثبت من الشفاهة والكلام المرتجل ، وتجد في هذا المكتوب من الاستعجال والقسوة ما يتم المقصود بدونه ، مما يدل على أن المشكلة عند بعض الكاتبين ليست مجرد غضبة عابرة تنتهي في حينها ، بل هي موجدة نفسية قوية لا تزول بين عشية وضحاها ، وأحياناً هي معنى سلبي راسخ في سويداء القلب يمرض صاحبه قبل الآخرين .
إن الكتابة أداة من أدوات الإصلاح الاجتماعي والتربية الأخلاقية وحري بمن أمسك بالقلم (أو الكيبورد كما يسمون لوحة المفاتيح) أن يشعر بالأمانة , ونهيه النفس عن دوافعها المريضة ومقاصدها الشخصية وأغراضها الذاتية ، وصدق الله إذ يقول : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) .