تخطى إلى المحتوى

الرجل المستعمل و المَرْأَةُ المُسْتَعْمَلَة ! 2024.

مِن الظَّوَاهِر التي يَستَدل بِهَا بَعض الاقتصاديين عَلى تَردِّي أحوال الاقتصاد؛ ظَاهرة "بيع وشراء الأشياء المُستعملة"!!
فِي السَّابِق، لَم يَكن النَّاس يَتعامَلُون مَع المَوَائِد المُستخدمة، إلَّا فِي حَقل "السّيارات"، حَيث الحَراج يَفتح أبوابه كُلّ عَصر للبَائِعين والمُشترين والمُسترزقين!!
وقَبل سَنوات بَدأت لَوحات شراء الأثاث المُستعمل تَملأ الشَّوارع، فِي تَجاوز صَريح للحَرَاجَات الكُبرى مِن أمثال "حَراج بن قَاسم" فِي الرِّياض، و"حَراج الصَّوارِيخ" فِي جُدة، وغَيرهما مِن الحَراجَات المَشهُورة!!
وفِي الطَّفرة الثَّانية فِي بداية الثَّمانينات.. وُلدت ظَاهرة "بيع وشراء الكِتَاب المُستعمل"، وكَانت مِن أجمل وأحلى الظَّواهر.. ثُم جَاء "الجَوَّال"، فأصبح فِي كُلّ زَاوية ورُكن طَاولة لعَرض "الجَوَّالات المُستعملة"، ثُم مَدَّدَت الظَّاهرة رجليها فَوَصَلت إلى البَشَر، فنَجد أنفسنا أمام "الرَّجُل المُستعمل"، و"المَرأَة المُستعملة".. وأعني بِهما مَن سَبق وأن تَزوَّج، أمايسمى المطلق والمطلقة ،وقد قال بعض الفقهاء في أمر النساء أن الثيب(المطلقة)أفضل من البكر بدليل أنها مقدمة عليها في القرآن الكريم ،حيث يقول جل وعز(ثيبات وأبكارا)
وفي ذلك يقول الشيخ العلامة /محمد الامين الشنقيطى -رحمه الله_ فى "اضواء البيان" :

)وفي تقديم الثيبات على الأبكار -هنا في معرض التخيير ما يشعر بأوليتهن . مع أن الحديث « هلا بكراً تداعبك وتداعبها » ، ونساء الجنة لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، ففيه أولوية الأبكار . وقد أجاب المفسرون بأن هذا للتنويع فقط ، وأن الثيبات في الدنيا والأبكار في الجنة كمريم ابنة عمران ، والذي يظهر -والله تعالى أعلم -: أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن ذكر من الصفات العالية ديناً وخلقاً ، وقدم الثيبات ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق ( .

ومِن المُصطلحات الغريبَة أنَّ أهل بِريدة -ونَظراً لكِثَافة هَاجس الدِّين لَديهم- يُصفّون المَرأة المُطلَّقة أو المُستعملة بأنها "امرأة مُصلى فيها جُمعة"!!
وفِي عَالم البَحث.. هُناك مَعلومات جَديدة "Firsthand Information"، وهُناك مَعلومات مُستعملة "Secondhand Information"، وأكثر البَاحثين يُفضِّلُون النّوع الأوَّل.. ليس لأنها طَازجة، بَل لأنَّها مَعلومات يُتحكَّم في تَوجّهها، حيث لا نَموذج يُمكن القِياس عَليه!!
وثَقافة "بيع وشِراء الأشياء المُستعملة".. ثَقافة غربيّة بامتياز، حيث نَجد مَحلَّات "السكند هاند" تَنتشر فِي كُلّ زَاوية فِي بريطانيا، مَع مُلاحظة أن ريع هَذه المَحلَّات يَذهب لصالح الجمعيّات الخيريّة، وهَذا يَجعل النَّاس تَتحفّز وتَتشجّع لتَقديم "مَا لا تَحتاجه مِن مَواد" كَهِبَات وعَطَايا لهَذه المَحلَّات، التي تُعِدُّها وتُصْلِحُها وتُجَهِّزها للزَّبائِن!!
إنَّ ظَاهرة "بيع وشراء الأشياء المُستعملة" ظَاهرة جَديرة بالاحترام، لأنَّها حَل لمُشكلات كَثيرة، أهمها الجَانب الاقتصادي، كَمَا أنَّها حل وَسط لأُولئك الأغبياء الذين يَشترون "مَا لا يَحتاجون إليه" بثَمن غَالٍ، ليَكون مِن نَصيب الفُقراء الذين يَتصيّدونه بثَمن زَهيد، وفِي ذَلك تَجسير للفَجْوَة بين الأغنيَاء والفُقرَاء، أو لِنَقُل "إعَادة لتوزيع الثَّروة" عَلى طَريقة "العرض والطلب السلمية".. ليَنَال الفُقراء شُعاع مِن أَضوَاء الأغنيَاء!!
نَعم.. أعرف أنَّ البَعض يَتحفَّظ عَلى "الأشياء المُستعملة"، و"المَوَائِد المُستطرفَة"، ولكن هَذا التَّحفُّظ لا قِيمة لَه أمَام الحَاجَة.. وقد يَتحفَّظ البَعض عَلى اقتنَاء المَلابس مِن هَذه المَحلَّات ويَقبل البَعض الآخر، وهَذا تَحفُّظ لَه وَجَاهته.. وإنْ كَان أهل بريطانيا لا يُمارسون هَذا التَّحفُّظ، بَل نَجد إحداهنَّ تَعمد إلى مَحل "سَكند هَاند" وتَشتري شَنطة مِن مَاركة "بيربري" "Burberry" بخَمسة جُنيهات، فِي المُقابل نَجد أنَّ سعرها جَديدة تُساوي 100 جنيه.. وبذَلك تَكون المَسافة بين شَنطة الغَنيّة وشَنطة الفَقيرة هي مَسافة زمنيّة، وليست مَسافة حَضاريّة أو طَبقيّة!!
ولازَال القَلم يَتذكَّر أنَّ صَاحِب هَذه السّطُور؛ انخَرَط مَرَّة فِي بِيع وشِراء السّيارات المُستعملة، عَبر الصَّدِيق الوَفِي أبُونَوَّاف "محمد الحازمي"، وقَد كَان أكبر أحلَامِي أن أمتلك سيارة مِن نُوع مَرسِيدس، والتي اشتراها جَارنا جَديدة بمَبلغ يَتجاوَز رُبع المِليون، وليس لِي سَبيل -وَقتئذ- إلى ذَلك المَبلغ.. والوَاقِع حَتى الآن لا أَملك هَذا السَّبيل!!
فمَا كَان مِن صَاحِب المَعرض "أبُونَوَّاف" إلَّا أن وَفّر لِي سيّارة مَرسيدس، بحَالة صحيّة جيّدة، وبمَبلغ لا يَتجاوز رُبع المَبلغ الذي دَفعه جَارنا الغَني، وبذلك اقتنيت السيّارة -"وما فيش حد أحسن من حد"-، فكُنا فِي "الغِنى سَواء، وفِي الرّكوب عَلى حَدٍّ سَواء"!!
وللأمَانة.. فإنَّ أصحَاب المَعارِض كَانوا يَتخوَّفون من تِلك السيّارة التي استعملت، وبِيعت واشتريت عِدَّة مَرَّات -"كَمَا التَّداول"-، وكَانت طَريقتهم لمعرفة ذَلك؛ مِن خِلال قِرَاءة الأسمَاء المُدوّنة بالاستمارة، والتي مَرَّت عَلى ملكيّة السيّارة، وعَددهم، الأمر الذي جَعل بَعض البَائعين يَنثر شيئاً سَائلاً -كالشاهي ونحوه- على الاستمارة، حتى يَتسنَّى له التَّقدّم إلى إدارة المرور، طَالباً إصدَار "بَدَل تَالِف" وليس "فَاقد"، وبذلك تَصدر الاستمارة باسم المَالِك الأخير فَقط، الأمر الذي يَجعل هَذه السيّارة مَرغُوبة فِي الشّراء.. وسأكون صَريحاً وأعترف أنَّني كُنت ممَّن يُمارس هَذه الطَّريقة، سَائلاً الله العَفو والتَّجاوز والغُفران!!
إنَّ ظَاهرة بِيع وشِراء الأشيَاء المُستعملة، ظَاهرة طَالت كُل شيء، والأغرَب أنَّها مُنذ القِدَم طَالَت الأمور المَعنويّة قَبل الأشيَاء الحِسيّة، ولَعلَّ أقدم المَعنويات التي طَالَها الاستعمَال هِي "الكَلام"، وأَعنِي بِه الكَلام المُستعمل، أو مَا يُسميه زَميلنا اللغوي الجَاحِظ "المَعَانِي المُستطرَفة"!!
وأوّل مَن التفت إلى ذَلك.. جِدّنا الشَّاعر زُهير بن أبي سُلمى حِين قَال:
مَا أَرانَا نَقُولُ إلا مُعَارَا
أو مُعَاداً مِن قَولِنَا مَكْرُورَا !
ومِن بَعده قَال خَالنا الأسود أُوبَامَا العَبسي:
هَل غَادَر الشُّعرَاء مِن مُتردّم..
أمْ هَل عَرفت الدَّارَ بَعد تَوهّم ؟!
إذن، نَحن إزَاء مَا يُسمى "الكَلام المُعَاد"، أو "الحَديث المُعاد"، ومَا يُسمِّيه الحبر هُنا "الكَلام المُستعمل".. ومَتى تَخلَّص المَرء مِن ظَاهرة "الكَلام المُستعمل" تَميّز بأسلُوبه، وعُرف بِه، لذلك يُقال "الرَّجُل الأسلُوب"!!
والغَريب أنَّ استعمال مُفردات الآخرين، والاقتباس مِنها، تَرفع مِن مستوى مُستخدمها، مِثلَمَا أنَّ شِرَاء الأشياء المُستعملة يُقلِّص الفَجْوَة بين الأغنِيَاء والفُقراء، كَذلك استعمال لُغة وأسلُوب الآخرين؛ يُقلِّل المَسَافة بين المُثقَّفين والمُفلِسين!!.

يسلمووو
شكرلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.