ففي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بقتل الكلاب، فننبعث في المدينة وأطرافها، فلا ندع كلباً إلا قتلناه، حتى إنا لنقتل كلب المُرَيَّة -تصغير امرأة- من أهل البادية يتبعها.
وفي "صحيح مسلم" أيضاً عن ابن المغفل، قال: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب، ثم قال: (ما بالهم وبال الكلاب).
في "سنن النسائي" عن عبد الله بن المغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم).
والمشهور أن هذا من باب الناسخ والمنسوخ، يتبين ذلك من خلال تبويب الإمام مسلم بقوله: "باب: الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك" .
ويظهر كذلك من قول الراوي عبد الله بن المغفل: "ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم"، وفي هذا دلالة على أن الأمر بقتل الكلاب عموماً، كان متقدماً على الترخيص بكلب الزرع والماشية.
ومما يؤكد القول بالنسخ قول إمام الحرمين الجويني: "والأمر بقتل الكلاب منسوخ، وقد صح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل الكلاب مرة، ثم صح أنه نهى عن قتلها، واستقر الشرع عليه، وكان هذا في الابتداء وهو الآن منسوخ".
وهذه الأحاديث وإن كانت من باب الناسخ والمنسوخ، ولكن مع ذلك لم يعدم العلماء وجوهاً يجمعون بين ظواهرها على فرض أن الأمر لم ينسخ.
قال ابن قتيبة: "وأما قتله كلاب المدينة فليس فيه نقض لقوله: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها)؛ لأن المدينة في وقته -صلى الله عليه وسلم- مهبط وحي الله تعالى مع ملائكته، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، كما روى أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة، فسألته ما له؟ فقال: (لم يأتني جبريل منذ ثلاث) قال: فإذا جرو كلب بين بيوته، فأمر به فقتل، فبدا له جبريل عليه السلام، فبهش -أي أسرع وأقبل- إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه، فقال: (لم تأتني فقال: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا تصاوير) رواه أحمد، وهذا دليل على أنه كما تكره الكلاب في البيوت، تكره أيضاً في المصر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، أو بالتخفيف منها فيما قرب منها، وأمسك عن سائرها مما بعد من مهبط الملائكة ومنزل الوحي".