أعمل بوظيفة حكومية مناسبة والحمد لله ، ولي زميل ملتزم في نفس المكتب الذي
أجلس فيه ، لكنني لاحظت في كلامه أنه كلما قال كلمة "أنا" لازم يقول
بعدها: أعوذ بالله من كلمة أنا، أو أستغفر الله ، مما اضطرني أن أقول مثله،
وهذا بدوره جعلني أحاسب على كل كلمة وحرف أنطقه، وبصراحة حسيت بالملل
والضيق لأن الله أعلم بنيتي.
عموماً لما سألته عن سبب الاستغفار بعد الكلمة قال لأنه لا أحد يقول أنا
إلا الشيطان، كما أن الكلمة تعتبر تكبرا!. فقلت له الله أعلم بنيتي، فقال
لي: حتى لو نيتك سليمة ما ينفع تقولها أصلاً …!! فهل كلمة (أنا) نوع من
أنواع الكبر، وهل الاستغفار بعدها يجعلني غير متكبر في كلامي ويعفيني من
مسئولياتها إن كان فيه خطأ ما، وهل ما قاله هذا الزميل صحيح أم ماذا؟
أجيبونا بارك الله فيكم.
الجواب:
محمود اسماعيل/مستشار شرعي.
أعجب أشد العجب على هؤلاء الذين يحرمون ويحللون دون سند أو برهان،
ولا يتوقفون على مجرد ذلك، بل يجعلون الناس شياطين وأشباه شياطين وأهل كبر
لمجرد أن أحدهم قال كلمة أنا في سياق كلامه!.
ودعني أذكر لبعض هؤلاء الذين يتصورون أنفسهم أوصياء على عباد
الله في الأرض بعض الأدلة التي تؤكد أن كلمة (أنا) ليست حراما، وأنهم
يحرمون ما أحل الله دون سند أو دليل.
الدليل الأول : قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا
سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر،
وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر).
الدليل الثاني : قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
البخاري (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إليَّ رجال منكم، حتى إذا أهويت
إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما
أحدثوا بعدك؟).
الدليل الثالث : كرر سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كلمة ( أنا) أكثر من مرة ردا على سؤال
الرسول الله صلى الله عليه وسلم:مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِما؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي
الله عنه: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَة؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ
الْيَوْمَ مِسْكِينا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا. قَالَ:فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي
الله عنه: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
الدليل الرابع : ذكر القرآن الكريم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: (اجعلني على خزائن الأرض
إني حفيظ عليم) حيث لجأ سيدنا يوسف إلى تزكية نفسه إظهارا لما يخفى على صاحب الأمر وهو الملك،
وبما يترتب على هذا الإظهار من إسناد الأمر إلى الأكفاء، حتى تعود المصلحة على عامة
الناس، وهذا فيه خير عظيم، خاصة إذا أخلص الإنسان النية لله.
أخي العزيز..
بعد هذه الأدلة التي أحسبها حاسمة يمكن الوقوف معك على بعض المحددات
الإيمانية الهامة، والتي يمكن لك من خلالها الوقوف على إجابة ما ورد في
استشارتك من نقاط وهي كالتالي:
1-مدح النفس بشكل عام قضية تحتاج إلى تحقيق، فليس دائما مذموما أو محرما أو غير محبذ.
2- كلمة (أنا) كأي ضمير مِن الضمائر, لا شيء في قولها أوتداولها في الكلام عامة، وهي من
الكلمات التي لا مناص للإنسان من استخدامها في موضعها، وقد تكون إخبارا عن النفس بعيبها
أو اعترافا عليها بذنبها، وقد تكون ذكرا للنفس ببعض الصفات الحسنة والأفعال الجميلة، وقد
يكون هذا كذبا، وقد يكون صدقا.
3- ذكر كلمة "أنا" في الكلام لا بأس بها شرعا، لكن "الإكثار منها دون لازمة ليس من حسن
الكلام وتمامه، وذلك إعمالا لقوله تعالى: (قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) حيث
إن الإكثار من الكلمة دون داع يجعل الغير يظن أنك تشكر في نفسك أكثر من اللازم.
4- أنت غير ملزم شرعا ولا عقلا ولا منطقا بتكرار جملة
"أعوذ بالله من كلمة أنا" في كل حديث تذكر فيه كلمة أنا لأن ذلك من باب
الحرج في الدين والتنطع الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:
(هلك المنتطعون..).
5- تكرار كلمة (أنا) ليس دليلا على أن صاحبها متكبر،
وعدم قولها بالمرة ليس دليلا على أن الإنسان متواضع لأن الأمر في كلتا
الحالتين يتوقف على النية وأسلوب التفكير.
6- ليس من سلطة أحد أن يحرم ما أحل الله، أو أن يفرض على
أحد شيئا لم يفترضه الله ورسوله.
7- ليس من حق أحد منا الحكم على قلوب الناس أو التشكيك فيهم تحت مسمى الدين أو التدين.
8- إذا كان كلام الإنسان مبنيا أصلا على السمعة أو الكبر فإن جملة (أعوذ بالله من كلمة أنا) لا يمكن أن
تعفيه من المسئولية الشرعية التي تترتب عليها أحكام السمعة أو الكبر، ومن ثم فليس للجملة أي قيمة
شرعية تذكر.
9- إذا كان تكرارك لكلمة (أنا) في نظر زميلك نوعا من أنواع الكبر ومن أعمال الشيطان،
فلماذا لا يدعي أيضا أن تكرار جملة (أعوذ بالله من كلمة أنا) التي يقولها تعتبر من الرياء؟!.
10- ثمة استثناء واحد يدل على كراهية كلمة أنا مفردة،
وذلك في حالة الاستئذان حيث ينبغي للمُستأذن أن يُفصحَ باسمه أو كنيته إن
كان مشهورا بها، وذلك لما روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنَّه قال:
أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في دَينٍ كانَ على أبي, فدققتُ الباب,
فقال: (مَن ذا؟), فقلتُ: أنا, فقال: (أنا أنا!)، كأنَّه كرهها، وكذلك إذا
كانت الكلمة على سبيل مدحِ النَّفس والإعجاب بها والفخر والخيلاء.
11- أعتقد أن المشكلة ليست في قول كلمة "أنا"، وإنما في رؤية "الأنا" نفسها، والتي تعظم في نفس
صاحبها إذا لم يتدبر ثلاثة أمور هامة:-
أ- إذا لم يتدبر الإنسان منا عظيم فضل ربه عليه وسابغ نعمه عليه
(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
ب- إذا لم يتدبر عيوب نفسه وجهلها ولذا كان من دعاء سيد الاستغفار أن
تقول: (أعوذ بك من شر ما صنعت).
ج- إذا لم يتدبر النعم التي منَّ الله بها على غيره من الناس كما قال -صلى
الله عليه وسلم- (الكبر بطر الحق وغمط الناس).
منقول للفائدة
تحياتي لكم
جريحة الروح
على الرد الرائع