هي فصول من قصة البراءة..وبراءة القصة..
سطرتها بمداد تجاربي..وحبّرتها بدموعي..وشكلتها في قالب الحنين.. أضفتُ أليها شيئا من العبر..وحكيت بها واقعا عايشناه.. قد يختلف عن بقية الأُسر..
وعزمت على كتابة ما تيسر من فصولها .. علّها أن تلامس شغاف قلوبكم..وعلي أن أقدملها ما يسرّها ويسعد روحها..في دارها الأخرى..
في ليلة من ليالي الأنس والسعد..ليلة 14/7/ 1445هـ
اكتسى دارنا برياحين الفرح بولادة شقيقتي (ابتهال) في أسرتنا المكونة من 4 ذكور و4 إناث
ولم تخرج ابتهال إلى نور الدنيا حتى أتمت والدتي قراءة سورة البقرة كاملة عليها..ثم خرجت مستقبلة دنياها بنور آيات الله..
وكانت الوحيدة بيننا التي أتمت والدتي القراءة عليها ثم وُلدت..
نشأت ابتهال في أسرة مستقيمة ولله الحمد فوالدتها داعية معروفة في بعض مناطق المنطقتين الغربية والجنوبية من المملكة
ووالدها يُشهد له بالإستقامة والمحافظة على الصلاة..
ابتهال..أو(بتّوله).. اسم تسمعه على لسان الصغير والكبير.. الكل يطلبها والكل يحب جلوسها واللعب معها..
كبرت ابتهال وكبر حبها وتميزها معها..
فعلت شفاهها ابتسامة ساحرة.. وميزتها أناقة باهرة.. واكتست بروحٍ مرحة حيوية..
وزينها شعرحريري ينساب حسنه على كتفيها ويزداد بريقه ورونقه في كل مرحلة من مراحل عمرها..
تحدث الجميع عن جمال شعرها.. مدرستها..معلماتها..صاحباتها..ق ريباتها..منهم من وصلنا ووصلها خبره ومنهم من لم نعلم بخبر إعجابه إلا مؤخرا..
ورغم أن من حولها من صاحبات وقريبات تميزن بشعور ناعمة طويلة..إلا أن لـ شعر ابتهال جاذبية من نوع آخر..شهد له الجميع بذلك.
.لماذا..لا أعلم..لعله جمال خاص بأطفال الجنة.!!
أحبت ابتهال شعرها كثيرا بل وأكسبها غرورا بريئا وثقة بنفسها..
ولم تكن تسمح بقصه أوالإنقاص منه ولو قليلا..وكانت تحلم أحلامها الطفولية الرائعة وتردد سأترك شعرييطول حتى يصل إلى قدماي..
وتباعا لذلك فقد كانت ابتهال من محبات الأناقة والزينة بأنواعها.. تحب التفنن بتسريحات شعرها.. ويهمها اختيار الألوان المناسبة المتناسقة للباسها رغم صغر سنها..
ومع كل لباس تجد الأحذية والحقائب الناعمة المناسبة للباسها.. فكانت الأكثر اهتماما باقتناء الملابس المتنوعة والمختلفة والتجديد فيها حتى لا تكاد تجد لباسا قديما منبين ملابسها..
وبذلك أحبت شقيقتها التي تكبرها سنا الإهتمام بلباسها فكانت هي المسؤولة غالبا عن تسريحات شعرها المختلفة وتنسيقات لباسها وما إلى ذلك.
لكن..
لم تسلم هذه الطفلة من أعين المعجبين..
فكانت دائمة التشكي من آلام في رأسها.. فتارة لا تنام إلا بصداع شديد برأسها.. وتارة يصيب شعرها أمراض لا تكاد تعالج منها حتى تعود إليها ثانية.. وكثيرا ما تعرضت لحوادث في رأسها سلمها منها رب البريات..
وفي نهاية المطاف..
تساقط شعر ابتهال تساقطا كثيفا فكانت تتساقط الخصل من رأسها بمجرد أن نمسك بها..حتى غدا وجهها كالحا مصفرا..
وفقد شعرها غزارته ورونقه المعتاد..وحين استمر شعرها في التساقط الكثيف بدا الأمر مريعا لنا..فطلبتُ من والدتي أن تسمح لي بأخذها لقص شعرها علّ ما به من علل أن تذهب..وتعود إليها صحتها..
وافقت والدتي على مضض وحذرتني بشدة أن أقصره كثيرا..لكن خوفي على أخيتي أجبرني على مخالفة رأي الوالده..
فأخذتها معي في يوم خطوبة شقيقنا الأكبر..وطلبت من (الكوافيره)أن تقصره حتى أذنيها..
في بادئة الأمر كانت ابتهال ترفض بشدة لكن سرعان ما أقنعتها أن شعرها متعب قليلا ويجب قصه ليعود في جماله وطوله..وافقت أيضا على مضض..
قصصنا شعرها وكنت أمتدحها طوال الوقت وامتدح قصتها الجديدة حتى تتقبل شكلها بعد قص شعرها..ولا تصاب بأزمة نفسية جراء ذلك..بل وكنا نشير لكل من نذهب إليهم أن امتدحوا شعرها..فإن أخطأت إحداهن وصرخت.. لاااا خسااااارة.!!
بكت ابتهال من فورها وصبت عليّ عبارات الغضب والعتاب من تصرفي ورددت: (انتي السبب)..!
ويوما بعد يوم اعتادت ابتهال شعرها وعاد لشعرها شيئا فشيئا صحته ورونقه وبدأ يطول شيئا فشيئا..
ورغم أن ابتهال في أجمل سنين طفولتها إلا أنها لم تقضِ وقتها كله في اللعب ..بل عاشت في كنف كتاب الله عز وجل..
فقد كانت تنطلق فجرا بروح متفائلة ومنشرحة مودعة والدتها بقبلات بريئة إلى مدرسة تحفيظ القرآن الكريم دونما أي رهبة
لتقضي وقتها هناك مابين تلاوة وحفظ واستماع لآيات كتاب الله..
تعود بعدها منهكة فأكون في انتظارها لاصطحابها لدار الكتاب والسنة عصرا..
تتعذر تارة بوجه ملؤه الخجل بأنها لم تنهِ بعد لعبها.. وتارة أنجح في إقناعها بالذهاب فتوافق على شرط أن أسلمها شهادة وهدية في آخر الفصل الدراسي..
نعود من الدار قبيل المغرب فتكون محفظة كتاب الله في انتظارنا خلال يومين من أيام الأسبوع..تحمل مصحفها بين يديها الصغيرتين وتسبقنا جميعا في الجلوس والتسميع.. مع أنها تحفظ في مدرستها غير الذي تحفظه في الدار والمنزل.!!
وتارة تجد الوالدة قد تهيأت للذهاب إلى الجمعية الخيرية فتطلب أن تذهب معها وهناك تقضي وقتها في توزيع الكتب والمطويات على الحاضرات.. والمساعدة في الأعمال الخيرية التي تناسب سنها..
تعود منهكه فتجد تلك الرفيقة قد قبعت في إحدى زوايا المنزل..
تسارع إليها لتفتحها وتطلب مني أن أساعدها في الإستذكار.. تنهي مذاكرتها وقد بلغ بها العناء مبلغه..فتتجه بكل هدوء ودون أن يُطلب منها إلى فراشها الصغير وتضع يديها تحت خدها الإيمن استعدادا للنوم..أسارع في إعداد العشاء لها.. فـ تارة أستطيع تقديم شيء يسير لها وتارة أجدها قد استغرقت في نومتها وسافرت مع أحلامها..!
ثم تستيقظ مرة أخرى فجرا تستقبل يومها الجديد بكل نشوة كعصفورة تغدو باحثة عن رزقها..
استطاعت ابتهال أن تجمع بين المرح والحيوية وبين والهدوء والرقة..
فلم تكن بالحيوية الغجرية المزعجة إلا إن أرادت أحيانا أن تلفت أنظارنا للعب معها في المنزل فقط.. ولم تكن بالهادئة الباردة التصرفات والحركة..
بل جمعت بين رقة الأنوثة وحماس الشباب وهمتهم للعمل الدؤوب المستمر..
فكانت تدخل يديها الصغيرتين في كل عمل نقوم به طلبنا منها أو لم نطلب.!
حتى أننا اعتمدنا عليها في إعداد طبق السلطة اليومي وتنسيق سفرة العشاء وما إلى ذلك..فقد كانت حيوية..نشيطة..
كثيرة اللعب والحركة..والجري والقفز هنا وهناك..
تحب اللعب كثيرا كأي طفلة في عمرها..تلعب تارة مع شقيقها الذي يكبرها بسنتين (عبد العزيز) وتتشاجر معه تارة أخرى..إذ كانت الأقرب إليه سنا وروحا..
تنسجم سريعا مع أي فرد في العائلة حتى ظن كل واحد منا أنها الأقرب له ..
وتستهويها تصرفات (المداعبة) و (الإستهبال) من إخوتي وتشاركهم ذلك على الفور..
فترقص مع من يرقص وتلون وجهها مع من يلونه وتلبس لباس غيرها لتدخل جو المرح الدائم على منزلنا..وتارة تقبل علينا مع شقيقها عبد العزيز وقد لبسا جميع الجوارب التي في السلة وامتلأت منها قدميها..وهما غارقان في الضحك..وتارة تملأ بدنها أيضا مع عبدالعزيز بالملابس والوسادات لتبدو أكثر بدانة بهيئة مضحكة..
ومن إحدى طرائفها..أن سمعت يوما لهجة أهل القصيم الغالية.. والتي ينطق فيها حرف السين بدل الكاف في أواخر الكلمات.. فظنت ببرائتها أن كل كلمة يجب أن تنتهي بحرف السين..فأعجبتها اللهجة كثيرا وصارت تتحدث بها على الدوام لتضحكنا بشدة إن هي بدأت الحديث بها..
وذات يوم سألتها شقيقتنا الكبرى : من علمك التحدث هكذا؟ أجابتها ابتهال وبلهجتها الخاصة المستحدثه: أنس.! قالت لها أختي ضاحكة: ابتهال لا ترمِ بكل تصرفاتك على أبنائي.. ظنا منها أنها تقصد ابنها أنس.. لكنها كانت تقصد (أنا) وختمتها بالسين فصارت (أنس).!! وراجت هذه اللهجة في بنات سنها وصارت قدوة لهم,تعلمهم كيفية نطقها وتتحدث أمامهم بذلك..ومع ذلك تفوقت على الجميع في طريقة نطقها وطرافتها..
واختلفت هي وشقيقتي يوما في عصير كلٌ منهما يظنه له.. فأصرت ابتهال على أن العصير لها وأرادت أن تضفي جوا من المرح وبدلا من أن تقول حقي قالت: حقس.! فضحكت شقيقتي وقالت إذا هو من حقي ..
ولازلت أذكر طريقة تهجيها للكلمات في الصف الأول..
حيث كثيرا ما كانت تحب قراءة اللوائح و تهجي الكلمات بصوت عالي وانسجام واضح في حين كنا لا نتمالك أنفسنا من الضحك على طريقة نطقها البريئة وتشاركنا هي ضحكاتها الرائعة على نفسها..
لم تكن طريفة في طريقة حديثها فقط.
.بل كانت تقوم بحركات طريفة مرحة كأن تقوم بحركات مرنة على لسانها فتقلبه وتطبقه بحركات إبداعية مضحكة..
وذات يوم قالت لنا لا أريد أن أموت وأنا صغيرة.! سألناها لماذا؟ قالت لأني سأصبح عصفورافي الجنة وأخاف أن يشتهيني أحد المسلمين ويأكلني.!
وإن بدأ المطر بالتساقط وسمعت ابتهال أصوات الرعد بدأت بالتسبيح بلا توقف حتى نشفق عليها.. رغبة في أن يتوقف الرعد إن هي سبحت معه لربها..
ولم تكن جلساتنا ولا أسفارنا وتحركاتنا تحلو دون وجود عامل المرح الأهم (ابتهال)..
كانت ابتهال تجمع المال مع عبد العزيز ليشتريان لعبة مميزة وقيمة..
فكانت ببرائتها وطرافتها تلتقط كل ريال تراه وتضعه في حصالتها ليتحقق لها حلمها الجميل..
وتشتري به كله في أحيان أخرى أو حتى توزعه على صاحباتها بكرمها الطفولي.. فـ كانت تلتقط كل ما تجده من مصروف المدرسة اليومي للعائلة من على الأرض سريعا وتأخذه كله دون تفاهم وتحتفظ به بكل إصرار.. حتى انها ذات يوم التقطت عشرات ووضعتها في جيبها كلها.. طلبنا منها أن تعطي بقية إخوتها مصروفهم ولو ريالات وهي مصرة كل الإصرار أن لا تعطيهم شيئا مكتفية بابتسامة بريئة حتى أخرج الوالد من جيبه مصروفا آخرا لإخوتي وترك ما أخذته ابتهال لنفسها معها..
فلم يكن الوالد ولا الوالدة يرفضان شيئا لابتهال لحبهما الشديد لها وخاصة الوالدة فقد كانت ابتهال الأقرب إليها من بيننا جميعا لا لإنها آخر العنقود..بل للطف تصرفاتها وشديد برّها فلم تتعب الوالدة قط في استذكار أو في غيره..حتى في أول يومٍ لها في المدرسة انسجمت سريعا وطلبت أن تذهب وحدها في اليوم التالي ومع الحافلة أيضا دون خوف أو رهبه..
أحبت ابتهال مدرستها وبكل نشاط وحيوية كانت تشارك في جميع الأنشطة المدرسية..
وتكلف إخوتي بإصرارها البريء أن يشتروا لها كل ما طلبته المعلمه.. ففي اليوم الوطني أصرت وشددت في إصرارها وبكاءها حتى خرج أخي في ساعة متأخرة من الليل واشترى لها علما ووشاحا وكل ما تشتهيه نفسها لتذهب في اليوم التالي منشرحة الصدر سعيدة بمشاركة الطالبات.. ولم تتوقف عن البكاء فجرا حين تذكرت أن معلمتهم طلبت منهم ثوبا خليجيا حتى وجدت والدتي الثوب وأخرجته لها وبكل براءة استعادت ابتسامتها سريعا وقامت لتفطر وتلبس وهي في غاية السعادة استعدادا للذهاب إلى المدرسة بثوبها الخليجي ..
رغم ذلك لم تكن بالنكدية عندما تستقيظ من النوم بل تستقبل والدتي بابتسامة جميلة فور استيقاظها من النوم وبالأحضان حينا آخر..
أحبت والدتها تصرفاتها الرقيقة المفاجئة.. فهاهي تنهي فقرة الإنشاد مع صاحباتها على المسرح في النادي ثم تنطلق من بين الطالبات لترتمي بحضن الوالدة أمام نظرات الإعجاب والضحك من قبل الحاضرات والمعلمات..
وكثيرا ما كانت ترتمي في حضن الوالدة حبا ودلالا ..وتقدم لها هدايا ورسائل حب بريئة صادقة بين الحين والآخر..بل وتنادي بالبـر وتهاجم من تراه أساء لوالدتي..
نظامية في كل شيء..لم تتعب والدتي يوما في نومٍ أو استيقاظ.. تنام مبكرا دون أن يطلب منها وتستقيظ سريعا عند إيقاظها بابتسامة لؤلؤية بريئة..لتحيا يومها ذلك بكل تفاؤل ومرح..حتى في أيام الإجازات تستيقظ مع والدي وحدها وتفطر معه بنشوة ثم تبدأ بممارسة هواياتها في الرسم والتلوين..حتى يستيقظ البقية..
وعدتها والدتي ذات يوم أن تعطيها عند حفظ كل سورة مبلغا من المال ففرحت بذلك جدا .. وصارت تحفظ بكل حماس وتنزل للمحفظة وتسمع لها ما استطاعت حفظه..لتجمع للعبتها التي لم تفكر بماهيتها بعد.!
أحبت ابتهال شعائر دينها.. كثيرا فكانت تقلدنا في كل شيء.. ذات يوم قررت بإصرار أن تتحجب ولم يكن مجرد قرار فحسب.. بل لم تكن تخرج معنا إلا متنقبة محتشمة بعباءتها..ولأنها كانت طفلة فلم تكن متزنة في تصرفاتها في السيارة فتتحرك هنا وهناك وتطل من النافذة بنقابها ونظراتها الطفولية لمن هم في الشارع مما أصابنا بالضحك بسبب نظرات الناس واستغرابهم وضحك الكثير منها ..!
عندما رأت والدتي حبها للحجاب وإصرارها اشترت لها عباءة جديدة ولم تكن تخرج إلا بعباءتها احتشاما ورغبة للحجاب..بل إنها تأثرت حين رأت مجموعة من الفتيات الفرنسيات في إحدى المساجد وقد لبسوا خمارا جميعا رغم صغر سنهم..فأعجبها كثيرا منظرهم وطلبت أن ترتدي خمارا مثلهم..
لازال صوتها يرن في أذني حين تناديني وشقيقتي ونحن نصلي : (كم ركعة؟).. (كم ركعه؟)
فإن لم تسمع منا جوابا قالت (سوي بيدك) أي أشيري بيدك لعدد الركعات..
فإذا شعرت باليأس لعدم ردنا عليها جلست جانبا تنتظر أن تنهي إحدانا صلاتها فتجيبها ثم تشرع في صلاتها.. تنهي صلاتها بكل هدوء وتقوم بترتيب سجادتها وشرشفها الخاص بها وتعيدها إلى دولابها بكل تنظيم واتزان..
وإن أراد أحد منا استفزازها كشف عن ساقيها أو ادعى رؤية ركبتيها.. لأنها كانت حريصة كل الحرص على ألا تتكشف لأحد..وأن تكون محتشمة طوال حياتها.. بل رغم صغر سنها إلا أنها اعتادت أن تكون متسرولة في مدرستها احتشاما وتنبئا لأي طاريء..
أحبت ابتهال الفقراء والمساكين وأحبها الفقراء أيضا..فكانت تشارك والدتي تقديم المساعدة لهم بل وتمد يد العون لهم في حمل المؤونة معهم وتسليمهم صدقاتهم.. بل وتتفانى في خدمتهم وإهدائهم.. فكانت تقطف الريحان من منزلنا بين الحين والآخر لسائق الحافلة..وتصر على أن تهدي معلماتها في نهاية كل سنة .. حتى أنها قالت ذات يوم لإحدى المساكين التي جاءت إلى الوالدة تشتكي قسوة ظروفها: (ايش رأيك نسوي لك غرفة في الحوش وتسكني فيها معانا).!! ولا زالت هذه الأخت تذكر هذه العبارة وتبكي صاحبتها..
وعن إجازاتها فقد كانت تقضيها في نوادي الجمعيات الخيرية رغبة منها.. بل كانت تنتظربكل لهف أن تعود الإجازة لتعود إلى ذلك النادي..
وفي أحد الأيام فاجأ والداي ابتهال وعبد العزيز بشراء ألعاب في فناء المنزل .. سعدت بها ابتهال كثيرا وكانت تنزل مع أشقائها لتلعب بها وتستذكر عليها أحيانا أخرى..لكنها لم تكن لتهنأ بها مع وجود ابن أختي (عبد الرحمن) ذا الأربع سنوات.. إذ أنه بمجرد جلوسها على المرجيحة يبكي بكاءا شديدا ويصرخ ( انزلي.. لا تطيحي)
تارة تنزل مراعاة له وتارة تصر على الجلوس مع بكاءه وتتذمر منه ومن إزعاجه ..
اشترت يوما (سلحفاه صغيرة) واشترى معها عبد العزيز (سمكة) حين رأيتها ضحكت وقلت لابتهال ستموت هذه السلحفاه قريبا ولن يطول عيشها.. فرفضت ابتهال فكرتي وكانت تحمل أملا بتربية هذه السلحفاه لفترة طويلة..
وكثيراما كانت تمني نفسها بالحصول على غرفة خاصة بها.. وتجمع لها اللواصق والزينة وتخطط وتحلم بالحصول عليها يوما..
ذات يوم طلبت إحدى القنوات الشاعرية أن تصور لها مقطعا إعلانيا حين رأوها في إحدى المتنزهات..تم تصوير المقطع ويبدو أنهم اعجبوا بها فطلبوا انضمامها للقناة بعد الافتتاح لكنها رفضت بشدة.. حاولنا اقناعها بالشهرة والاستمتاع لكنها كانت ترفض تماما.. وكأن الله أراد لها الشهرة من جانب أفضل بإذن الله..
وفي حفل زفاف شقيقي الأكبر 9/3/1433هـ
كان الأعتماد الأكبر عليها.. فهي من قامت بتوزيع الكتب الإسلامية.. وهي من قامت بالرقص الجماعي مع مجموعة الأطفال.. وهي من زُفت الزفة الحجازية مع مجموعة فتيات وأولاد صغار… وكأنها تريد أن يراها جميع الحاضرين و يملئوا ناظريهم بها قبل أن لا يروها مجددا.. وقد لبست ليلتها ثلاث فساتين كلٌ منها يفوق الآخر روعة وجمالا عليها بشهادة الجميع.. وهي تملأ روحها بالمرح والاستمتاع بكل المقاييس فقد لاتحضر مناسبة أخرى بعدها.!
في يوم الأربعاء 14/4/1433هـ
انهت ابتهال تسميعها بامتياز فمدحتها المحفظة وقالت لها: (خلاص يا بتوله الأربعاء القادم تحفظي السورة كاملة) لم ترد ابتهال بكلمة واحدة سوى أنها كانت تنظر إلى المعلمة بنظرات عجيبة وابتسمت لها فقط..تقول المعلمة: تعجبت من ابتسامتها الغريبة وأحسست من نظراتها أنها تخفي شيئا لا نعلمه نحن.!
صعدت فرحة لوالدتي لتحصل على المبلغ الأول من وعد والدتي..
يتبع
________________
وفي اليوم التالي يوم الخميس 15/4/1433هـ
أقيم حفل (ركاز) في إحدى المجمعات التسويقية .. طلبت ابتهال وشقيقتها الأكبر سنا مع عبدالعزيز من الوالدة الذهاب إلى هناك.. وافقت الوالدة على أن ينهي كلا منهم دراسته..جاءتني ابتهال تحمل حقيبتها الثقيلة بيديها وتطلب مني أن أذاكر لها بسرعه.. أنهيت مذاكرتي لها وعلى الفور أنهت لباسها وأناقتها قبل الجميع وجلست في صالة المنزل تنتظر أن ينتهي البقية..قمت ممازحة لها أمتدح لبساها وأناقتها ثم شرعت إلى جوالي أريد التقاط عدة صور لها – وكانت من محبات التصوير- لكنها كانت ترفض التصوير وتدير بوجهها عن الكاميرا حتى التقطت صورتين لها حين كانت في حالة ذهول وسرحان تنظر إلى ناحية معينة من الصالة وكأنها ترى شيئا لم تستطع تفسيره.!!
ذهب الجميع واستمتعوا بوقتهم هناك..وعادوا في وقت متأخر..وانطلقت ابتهال قبل الجميع كعادتها مرتمية على فراشها ونامت…
أما يوم الجمعة 16/4/1433هـ فقد كان يوما لا ينسى بالنسبة لنا..
استيقظت ابتهال مبكرا ولم تكن هادئة أبدا.. تغلق بابا وتفتح آخر.. وتلعب بالماء مع أخويها وتؤذيهم وتهرب بمرح.. حتى نزلت معهما إلى فناء المنزل هربا من شقيقها الأكبر بعد رشه بالماء ثم أكملت لعبها في الأسفل .. كان ذلك في وقت الظهيرة..
بعد لحظات سمعنا بكاء (ابتهال)..نزلت..
فإذا بأختي تعاضدها وهي تبكي بعد أن سقطت من (أرجوحة) المنزل..سقوطا مفاجئا رغم أنها لم تكن تلعب بها بل كانت تجلس عليها وتحرك قديمها فقط.!!
كان سقوطا غريبا جدا وكأنه حادث متعمد.!
ارتمت ابتهال بأحضان الوالدة وهي تبكي وتقول: (ماما أخاف ما أسمع)
فواستها والدتي وهي تضحك وتقول: لا لا تسمعي إن شاء الله.. ثم داوتها وتركتها تنام..
وحيث أن ابتهال كانت كثيرة السقطات والأوجاع بل ولأنها رغم تخوفها الشديد من المرض كانت صبورة في تحمل الآلام.. فأقسى ما تفعله تحرك رجليها تعبيرا عن شدة الألم.. لذا لم نتخوف لذلك الحادث..
تركناها نائمة وانشغلنا بضيوفنا الذي جاؤوا عصرا..فإذا بابتهال قد طال نومها.. بل فوجئنا بأنها تستيقظ لتتقيأ -أكرمكم الله- ثم تعود في نومها..
تكرر ذلك حتى بدا لنا الأمر مريبا..
اصطحبتها والدتي إلى المستشفى بعد صلاة المغرب برفقة شقيقي الأكبر (العريس) وقبل ذلك أرادت والدتي أن تغسل وجهها فساندتها لتقف أمام المغسلة وابتهال متألمة وفي غير وعيها فشمرت ابتهال عن ساعديها لتتوضأ كما اعتادت بتربيتها الإيمانية..!
وفي المستشفى طال التحقيق حول الأمر (اسمها, وزنها,عمرها….إلخ)
وكل ذلك وأخي يحملها من ممر إلى آخر فالمستشفى بأكمله لا توجد به عربية واحدة.!
وطال البحث عن طبيب الأشعة الذي اختفى فجأة.!
وصل الوالد وكانوا في محاولات لإدخال ابتهال قبل الحالات الأخف ضررا لخطورة حالتها.. ولا مجيب.!
وحين دخلت ابتهال في موجة تشنجات وصارت في حال يرثى لها.. هنا.. استيقظ الأطباء وهرعوا لإدخالها للأشعة المقطعية .. وعجزوا عن ذلك فتكاتف الأهل للإمساك بتحركات يديها العشوائية.. حتى تم عمل الأشعة المقطعية.. فكانت المفاجأة.. (كسر في الجمجمة ونزيف داخلي) .!
تحاملت والدتي على نفسها من هول الصدمة وجلست في أقرب مقعد وهي تسترجع وتحمد الله تعالى..ثم اتجهت لانتظار النساء وهرعت للصلاة..
تم تحويلها لمستشفى آخر لإجراء العملية ولأن النزيف لم يُستدرك سريعا فقد أحدث بقعة دم داخل الدماغ.!
أدخلت ابتهال إلى غرفة العمليات..في الساعة 12 ليلا..!
خرجت من غرفة العمليات في الساعة 1:30 وكانت أخطر أربع وعشرين ساعة ستمر بها ..
كنا نعد الساعات والدقائق لتمر الـ 24 ساعة بسلام..وللأسف قام الدماغ بالترشيح خلال الـ24ساعة مما كان يضغط على الدماغ ويسبب لها غيبوبة لا يمكن أن تفيق منها بسبب ذلك الترشيح!
وبعد عدة أيام نزفت مرة أخرى فأدخلت لإجراء عملية سحب الدم مجددا..
دخلت ابتهال في غيبوبة عميقة جدا بل (موت دماغي) وظلت على هذا الوضع 10 أيام في العناية المركزة.. تعتمد على التنفس الطبيعي..ولا تستجيب لأي شيء.!
كنا خلالها نتناوب عليها في الرقية الشرعية ووالدتي وشقيقي بدئوا عليها قراءة ختمة كاملة..
والعجيب في الأمر أن آيات الله تتلى على آذانها ليل نهار ولم تتوقف عنها أبدا..
حتى أننا فوجئنا بأشخاص والله لا نعرفهم كانوا يطلبون القراءة على هذه الفتاة خصيصا بل ويأتون في الأوقات التي لا نتواجد فيها للقراءة عليها..وبفضل من الله كثفنا الدعاء لله سبحانه بأن يلطف بحالها ويقضي لها بما يراه رحمة لها ولطفا بها..
في هذه الأثناء كنا نسمع كلمات الإحباط واليأس من الأطباء.. فمنهم من يقول أنها أخطر حالة في العناية المركزة.. ومنهم من يقول: لن تستيقظ من غيبوبتها أبدا لأنها غيبوبة عميقة جدا..ومنهم من يتسائل عن سبب ذلك الحادث الشنيع ويستنكر سقوطها من(أرجوحة) فقط..!
لكننا كنا نحمل أملا بحجم الحزن الذي في قلوبنا.. بل ونمني أنفسنا إن هي استيقظت كيف سنفاجئها.. بحفلة ..أم هدية فخمة..أم…أم…. بل وتناقشنا أيضا في كيفية إعداد الحفلة ومن سيحضر التورتة وأي صورة سنطبعها عليها وأي هدية سنقدمها…ومن سندعو لذلك الحفل ؟
الجميع كان يفكر بذلك الحلم حتى والدي لعلنا أن نتناسى تلك المأساة التي عايشناها وننظر بتفاؤل للمستقبل..فالرحمن سبحانه عند حسن ظن عبده..
ومع ذلك ..سحائب من الحزن والحنين تغطي منزلنا.. ماعدنا نستلذ طعاما قط.. ولم ترتسم لنا ابتسامة.. وانطفأت أنوار المرح والسعادة بغياب شعلة المنزل وريحانته (ابتهال)..فكانت أقسى الأيام التي مررنا بها..
وفي العناية انكب الزائرون على ابتهال بأعداد هائلة.. ومنهم معلمة القرآن التي زارتها في يوم الأربعاء..وقد علمت سر ابتسامة ابتهال حين طلبت منها الحفظ ليوم الأربعاء القادم..!
ازداد عدد الزائرين حتى جاءت المشرفة على القسم تسأل الوالدة (ماذا تكونين؟) تعجبا لأمر هذه الفتاة وكثرة زائروها من رجال و نساء..
حتى لم تعد تسمح بدخول الجميع تحرزا لحصول ضرر على المرضى عموما وابتهال خصوصا..فكانت تلك الساعة فقط تكتض بالزوار حتى لم يعد لنا حق لأن نبقى مع أخيتنا وحدنا..
فكنا نجلس إصرارا فوق الساعة المخصصة للزيارة وعذرنا بذلك أن الفتاة تحتاج لرقية مكثفة ولا يمكننا فعل ذلك في ساعة واحدة والزوار يملؤون المكان.!
فكنا في باديء الأمر نترك الوالدة تبقى بعد انتهاء وقت الزيارة الساعة 7 إلى الساعة 9 فقط بإذن من المشرفات وننتظرها نحن خارجا حتى تقرأ عليها وتمسح جسدها بالزيت المقروء وماء زمزم ثم تطيبها بالمسك.. و تخرج..
وفي الأيام الأخيرة تدهورت حالة ابتهال فانخفض الضغط بشكل كبير جدا حتى عجز الأطباء عن رفعه رغم إعطاءها جرعات أكبر من تحملها.. ثم تباعا له تعطلت المعده عن الهضم فكانوا يضطرون لسحب الحليب الذي وضعوه في المغذية بعد إدخاله ثم تردت حالتها جداوانخفضت معدلات الضغط والقلب وما سواه… فقررنا البقاء لديها تناوبا طوال اليوم..رغم رفض رجال الأمن والممرضات لكن خوفنا على ابتهال اضطرنا لمخالفة الجميع بالإجبارحينا..وبالواسطة حينا آخر..
كانت الوالدة تذهب في الساعة 11 ظهرا وتبقى حتى الساعة 7 بعد صلاة المغرب فآخذ مكانها مع شقيقي الأكبر حتى الساعة 1 أو 2 ليلا
فيأتي شقيقي الآخر والذي سافر على الفورمنذ سماع خبر ابتهال..ويبقى لديها من الساعه 3 حتى الفجر..
بقينا على هذا الحال عدة أيام لا نفتر عن الدعاء والقراءة عليها.. وكان شقيقاي يذهبان فيكل يوم ليوزعان الصدقات على أطفال الفقراء بنية شفاء ابتهال.. وأخرجا ما كانت تجمعه ابتهال في حصالتها ليضمانها إلى صدقاتهم وهما يطلبان من كل طفل أن يدعو الله أن يشفي ابتهال..
يتبع
______________________
اكتض الزوار كالعادة وبعد ذهابهم في الساعة السابعة كان على والدتي الخروج لأبقى أنا لديها..
وكنا قد اتفقنا مع أحد الرقاة المعروفين للمجيء والقراءة عليها حين أخبرنا أن ما بها قد حصل بسبب العين فعلا..وعدنا أن يحضر في الساعة الثامنة..
أرادت الوالدة أن تنتهي من تدهين جسدها بالزيت والماء المقروء والأثر الذي جمعه لنا مدرستها وتحفيظها تكرما..
فجاءت المشرفة تطلب أن يبقى واحدة فقط كالعادة..إما أنا وإما والدتي..
لكننا هذه المرة أصابنا إصرار عجيب على عدم الخروج..
وأردنا أن نبقى لحين حضور الشيخ للقراءة..فجاء رجل الأمن يهدد بأنه لن يدخل الشيخ إن لم نخرج.. لاأدري لماذا وقتها لم نأبه لكلامه..ولم نخرج..
كنت في كل حين أنظر إلى ساعتي متأملة حضور الشيخ وأعد لذلك الدقائق والثواني.. فلعل الله أن يكتب على يديه شفاء ابتهال..
في الساعة 7:30
كانت ابتهال شديدة البرودة فكنا نكمد قدميها بالماء الساخن وألبسناها جوارب ونحن نقرأ عليها آيات الإحياء علّ الله أن يحييها..
كانت الوالدة حينها منشغلة في دهن جسدها ورقيتها وشقيقتها التي تكبرها تحدثها في أذنها وتحكي لها.. أملا في أن تسمعنا وتستأنس بسماع أصواتنا كأي مريض في الغيبوبة..
فجأة..
انخفض القلب سريعا ووصل إلى الثلاثينات..!!
فزعت لذلك وأخبرت أمي..كانت أمي هادئة جدا وتكمل عملها في القراءة والتكميد..ثم بدا في النزول سريعا وأنا أحاول البحث عن أي ممرضة لتنظر في الأمر غير أن القسم بأكمله لم تتواجد به إلا ممرضة واحدة وكانت منشغلة بالذهاب والمجيء..!
وماهي إلا لحظات وإذا بالقلب يسكن ويتوقف عند الصفر..
فزعنا لذلك وخرجت أركض بحثا عن أي شخص..حتى جاءت الممرضة تمشي رويدا رويدا وحين رأت ما حصل فعلا هرعت إلى الطبيب..
جاء فريق بأكمله يجري ويجر عربة الإنعاش.. وأخرجونا من الغرفة على الفور..
لم نعد حينها نعي ما يحصل..أردت الإتصال بوالدي وشقيقي (العريس) الذين كانا في انتظارنا في حديقة المستشفى فإذا بجميع جوالاتنا في الغرفة !
فقام عامل النظافة متكرما بإعطائي جواله واتصلت بوالدي على الفور..
قلت له فقط بانخفاض القلب ولم أجرؤ على قول (وصل إلى الصفر).
فجاء والدي يركض مع شقيقي وخرجنا نحن لانتظار النساء..
كبرت والدتي لتصلي.. وهي عازمة على أن لا ترفع رأسها من السجود حتى يصلها خبر فلذة كبدها ..
أما عني فكنت أدعو الله بإصرار (يا محيي العظام وهي رميم أحيي ابتهال بقدرتك) (يا محيي العظام وهي رميم أحيي ابتهال بقدرتك) (ياااالطيف الطف بحالها) (يارب لا تحرمنا ابتهال) وكنت حينها أحمل أملا كالجبال بل يقين عالي جدا بشفاء ابتهال كنت أقول لنفسي (عارض وسيزول بإذن الله) وأدعو الله بكل إلحاح أن يعيد إلينا آخرالعنقود..
لحظات..
فإذا بوالدي يدخل علينا وهو يبكي وشقيقي خلفه قد لف شماغه حول رأسه..
رفعت والدتي رأسها من السجود على صوت والدي وهي تكرر الحمدلله..الحمدلله..أخذ الله أمانته..؟
أما والدي فجلس إلى أقرب مقعد..يبكي فلذة كبده ويسترجع ويدعو الله أن يعوضه خيرا..
لم تحملني قدماي ..جلست وقد انفجرت بالبكاء ..وأمي الغالية تحتضنني بكل ثبات وتقول: لا لا قولي الحمدلله..الحمدلله..
أما شقيقتي الصغرى فقد أصيبت بصدمة فلم تبكِ أو تنتحب.. من هول الموقف..
دخلنا إليها فإذا بذلك الوجه النير قد صار جسدا بلا روح..
ارتمينا عليها نحتضنها ونقبلها ونبكي.. ووالدتي بكل ثبات وهدوء بدأت تخلع الأجهزة التي أعيت ذلك الجسد البريء..وتقول:
(رضي الله عنك يا ابنتي هادئة في نومك.. هادئة في مرضك..وهادئة حتى في موتك..)
وصل الشيخ..في الساعة الثامنة التي تم الاتفاق عليها ..
وصل في الساعة التي كنا نترقبها بفارغ الصبر ولم نعلم أن الله سبحانه قد اختارها وكتبها ساعة لرحيل تلك الروح..
وصل ليجد ملك الموت قد سبقه وسافر مع روحها الطاهره..
اتصل شقيقي (العريس) بأخويه اللَذين كانا يوزعان الصدقات كعادتهما في هذا الوقت وأخبرهما أن يتوقفا عن توزيع الصدقات ويأتيا على الفور..فابتهال الحب قد انتقلت إلى رحمة الرحيم الرحمن..
جاءا شقيقيّ لا يريان طريقهما من الدموع..
يركضان في ممرات المستشفى علهما أن يلحقا بتلك الروح.. وعلّ قلوبهما المكتوية بنيران الحزن أن تنطفيء برؤية ما تبقى من ابتهال..
انكب شقيقي يحتضنها ويبكي والآخر جثى باكيا فلم تعد قدماه تحملانه أكثر..
أما شقيقتي الكبرى..سافرت على الفور تاركة منزلها على حاله بعد أن وصلتها الفاجعه .. تركته يئن بدموعٍ ألهبت حنين الفؤاد..وقد اشتاقت طوال العشر أيام للسفر لزيارة ابتهال..واليوم سافرت وأي سفر ترتجيه وقد رحل الأحبة..
جاءت تحمل معها حقائب الأسى المرير..وتقود خلفها ألما بخبر الوداع الأخير..
سافرت علها أن تلحق بذلك الجسد فتملأ عينيها منه قبل أن يسكن داره الأخرى..
..
بتثاقل وألم..خرجنا من المستشفى نجرّ أقدامنا رويدا رويدا..يحملنا الهم و الأسى..
وقد تركنا روحها خلفنا ترحل بعيدا..بعيدا.. حين اسودّ في أعيننا ذلك المسا
مشاعرُ متزاحمة أسكبت لهيبها في تلك القلوب
خوف..حزن..صدمة..ألم..ترقب
آهات,دمعات,بكاء وحنين ,شوق وأنين
ما أقسى تلك اللحظات..! وماأشدها إيلاما !
دخلنا المنزل ودخلت معنا ابتهال..
لم تدخل كعادتها.. تنشد وتصرخ وتنادي وهي تصعد درج المنزل.. تجري حاملة معها ما اشترت من لُعب لتدخل المنزل سريعا وتفاجئنا بما حملت..
كان دخولها هذه المرة هادئا.. مريعا.. محزنا..صامتا..
كيف لا وقد دخلت محمولة على الأكتاف..!
أصرت والدتي على أن نضعها في غرفتها وفوق سرير والديّ الذي طالما أحبت ابتهال اللعب فوقه..والنوم مع والدتي عليه.. تركناها تبيت تلك الليلة معنا..لتكون تلك الليلة الأخيرة التي تنام فيها ابتهال بجوارنا.. كنا نختلس الدخول عليها في الغرفة بين الحين والآخر لتقبيلها ووداعها بالدموع وكلمات الحنين التي لا تسمعها.!
وصل شقيقي الأصغر ورفيق ابتهال (عزوز) الذي تركناه عند الجيران حتى لا يفزع من تلك الأحداث..
وصل يعاضده شقيقه الأكبر.. وهو يبكي بل كاد قلبه أن ينخلع حزنا على وداع رفيقة عمره وصاحبته في اللعب والشجاروالنوم والاستذكار..
جاء يحمل في ذاكرته الذكرى الجميلة ويبكي رحيلها مع تلك الروح ..
احتضنته والدتي وهي تواسيه بكلمات الصبر تارة..وبلغة الدموع تارة أخرى..
طلب منها أن يراها..رفضنا جميعا وأخبرناه أنها في المستشفى..لكن إحساسه بوجود رفيقته لم يخطيء.. أصر على أن يراها وهو يقول: (أعرف انها في البيت)..ويطلب أن نريه إياها.. لم تجد تلك المحاولات لدينا بصيص أمل لكنها وجدت طريقها عند والدتي..وقالت لنا من حقه أن يودع شقيقته ويقبلها مثلكم حتى يرتاح ولا يتحسر على عدم رؤيتها طوال حياته..
دخل عليها وانكب يقبلها بتصبر ويقول ببراءة: ماما رائحتها جميلة.. ووجهها نيّر..
بفضل الله ثم وقع الصدمة نمنا جميعا في الغرفة المجاورة لابتهال..
صحيح أنها لم تزد على3 ساعات أو أقل لكن ما أطولها ذلك اليوم..نمنا جميعا.. ونامت ابتهال معنا.. لكنه النوم الأخير..
نوم بلا يقظة.. ونوم طويل لن نرى بريق عينيها بعده..ولن نرى ابتسامتها ترتسم على تلك الشفاه بعد ذلك المنام..ولن نسمع بعده إزعاجا وإصرارا على إيقاظنا من المنام..لأنه نومها الأخير!
وصلت شقيقتي من سفرها أخيرا وقد آلمها ذلك السفر..
وانكبت على ابتهال تحتضنها وتبكي بحرقة وتنتحب رحيل من كانت لها بمثابة الأم..اهتماما ورعاية قبل وبعد زواجها..
في اليوم التالي بدأنا أيام العزاء.. وقمنا بغسلها وتكفينها في المنزل بحمد الله..
شاركتُ شقيقتي الكبرى ووالدتي غُسلها مع داعيتين فاضلتين أشرفا على غسلها بفضل الله..وتم تكفينها في غرفتنا وفي مكانها الذي تنام فيه مع عبد العزيز..
ثم وضعت جنازتها في المكان الذي كانت تنظر إليه باستغراب ليلة سقوطها قدرا..وكأنها قد رأت جنازة لم تعلم ماهيتها ! ..
ثم حان الوداع الأخير..
ليخرج إخوتي ووالدي يحملونها للصلاة عليها ودفنها..اجتمعنا حولها لتوديعها..ذلك الوداع المرّ الذي لا لقيا بعده في دنيانا.!
جثينا حولها باكين..نقبلها ونحتضنها ونستودعها رب البريات أن يسعدها ويكرمها بكرمه وفضله..
ثم رحلت إلى دارها الأخرى مودعة أهلها ببياض يلف جسدها الطاهر وكأنها عروس تزف إلى زوجها في أبهى حلة…
رحلت ولسان حالها يقول: (ماما..بابا..إخوتي.. أهديتكم ثمان سنوات من عمري..أعتذر إن كنت قد أزعجتكم..لكني عشت أجمل سنيني معكم..)
ودعتنا وقد خبئت لوالدتي رسالة كتب فيها (ماما أحبك)
وتسجيل صوتي تفدي فيه والدتها بنفسها..
http://www.*******.com/watch?v=sv5zd…feature=relmfu
نعم…قد رحلت ابتهال..تاركة حطام دنيا.. لتحضى بجوار الكريم المنان..
وقبل أن ترحل.. جمعت العائلة على كف واحدة ثم وضعت نفسها في وسطهم..داخل قلبٍ كبير..
وكأنها علمت أن العائلة اجتمعت حبا وحزنا لأجلها.. وأنها ستبقى محبوبة الجميع وفي الذاكرة دوما..
ألعابها..ألوانها ورسومها..انشادها..ضحكاتها..أثو ابها وعطورها..عرائسها..صرخاتها ومزاحها ..
جميعها صارت ذكرى..ذكرى جميلة ومؤلمة في آن واحد.!
يخيل إلي سماع أنين لعبها بعد فقدها.. وبكاء سلحفاتها ببعدها.. بل لم تحتمل تلك السلحفاه رحيل صاحبة الأنامل الرقيقة في العناية بها..ولحقت بها بعد أقل من شهر من وفاة صاحبتها..!
بل امتلأ بيتنا في العزاء بالمساكين والفقراء وأهل القرآن والجمعيات الخيرية والداعيات مع أهل الخيرجميعهم يبكون رحيل تلك الطفلة..
نعم هي طفلة من أطفال الجنة.. مكثت في عائلتنا لنتعلم دروسا لم نكن لنتعلمها لولاها..
سنينا ثمانية.. كانت كفيلة بأ ن تخلد ذكراها في قلوبنا.. وتغير ملامح الحياة في أنظارنا..
بل استطاعت أن تترك أثرا عميقا في قلوب من حولها.. واستطاعت أن تجعل حياتها متوازنة ما بين دنيا ودين.. أحبت دينها وعاشت دنياها..
عاشت مذات الدنيا جمعيها دون أن تتعدى حدودا تغضب خالقها.. وبذلت جهدها لطاعة ربها..
..
ورغم حبها الشديد لمدرستها واشتياقها لتسلم شهادة حفظ كتاب الله من تحفيظها إلا أنها تسلمت شهادة من نوع آخر وقبل أن يتسلم صاحباتها شهاداتهم..
الهدوء…الحيوية… المرح ..التفاؤل.. التعاون… الإبتسامة…البر.. الرضا.. القناعة.. الحياء..الاحتشام ..حب الحجاب.. حب كتاب الله.. حب المساكين.. الصبر.. إهداء الهدية.. النظام..حسن الخلق..
دروس علمتني إياها طفلة الجنة.. فلم أشأ أن أحتفظ بتلك الدرة الوعظية لنفسي..
لذا آثرت على كتابة لآلئها بشيء من التفصيل لعلي أجد قارئا..ينتقي تلك المواعظ من بين السطور..
فأين من ينادي بفصل الدين عن الحياة؟ وأين من يدعي حرمان أطفال المسلمين من ملذات دنياهم؟
وأين من يدعي أن التربية القرآنية تجعل الطفل منطويا؟ أين هم عن ابتهال؟!
واليوم..
عدنا لحياتنا..مدارسنا..عملنا..روتين نا..زياراتنا ..وكلنا رضا بقضاء الله تعالى..لكن..
لا قيمة للدنيا ولا جمال.. بعد رحيل طفلة الجنة -بإذن الله- (ابتهال)!
..هنيئا لك جوار ربك..وهنيئا لوالديك شفاعتك بإذن الله..وهنيئا لنا شرف التعايش معك..حبيبتي..
سنظل نفخر بكِ ونردد قصتك ونتسامر على طرائفك ونبكي فراقك..
فأنتِ كنتِ ولازلتِ آخر العنقود..
أم البراء 26/6/1433هـ