وصبر نوح على فقد الولد،
وصبر إبراهيم على مقام ذبح الابن،
وصبر يعقوب على فراق يوسف،
وصبر موسى على أذى الطاغية،
وصبر داود على مرارة الندم،
وصبر سليمان على فتنة الدنيا،
وصبر عيسى على ألم الفقر،
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فصبر عليها كلها، وعاشها كلها، وذاقها كلها، فاز بالمقامات كلها، صبر على فراق الوطن، ومراتع الفتوة، وملاعب الصبا، وربوع الشباب، فترك الأهل والعشيرة، والدار والمال، وصبر على فقد الولد، فسالت أرواح أبنائه بين يديه، وقعقعت أنفسهم أمام ناظريه.
وصبر على ألم الأذى فأوذي في المنهج والوطن، والسمعة والخُلُق، والرسالة والزوجة.
وصبر على شماتة العدو، وتنكر الصديق، وعقوق القريب، ونيل الحاسد، وتشفي الحاقد، وتألب الخصوم، وتكالُبِ الأحزاب، وتكاثر المناوئين، وصولة الباطل، وقلة الناصر، وصبر على شظف العيش، وجفاف الفقر، ومض الحاجة، وقلة ذات اليد، وجدب النفقة، وعوز المعيشة، وحرارة الجوع، ومرارة الفاقة.
وصبر على غلبة الخصم، وقتل القريب، وأسر الحبيب، وتشريد الأصحاب، والتنكيل بالأتباع، والجراح في البدن، وفزع التهديد والوعيد، وقعقعة الغارات، وأهوال الغزوات.
وصبر على بطر الأغنياء، وزهو الكبراء، وشراسة الأدعياء، وجلافة الأعراب، وصلف الجهلة، وسوء أدب الجفاة.
وصبر على خيانات اليهود، ومراوغة المنافقين، ومجابهة المشركين، وبطء استجابة المدعوّين.
صبر وهو يرى الكنوز تفرّغ في أوعية الناس فلم يأخذ منها درهماً واحداً.
وصبر وهو يشاهد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يتقاسمها الناس ولم يحمل منها قطميراً.
ثم صبر على فرح الفتح، وسرور الانتصار، وجلبة إقبال الدنيا، وإذعان الملوك، واستسلام الجبابرة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً.
صبر وهو يحوز قطعان الإبل والبقر والغنم كالآكام، ثم يوزعها على مسلمة الفتح، ولم يظفر بجمل أو بقرة أو شاة وصبر على سكنى بيت الطين، وعلى أكل الشعير، وعلى افتراش الحصير، وعلى ركوب الحمار، وعلى لباس الصوف.
الأب مات ولم يره، والأم توفيت ولم تتم رضاعه، والجد فارق الدنيا ولم يحطه برعاية، والعم ذهب وقت النضال، وخديجة ودّعت يوم الحزن، والابن سالت روحه يوم تمام الحب، وعائشة تُرمى ساعة كمال الأنس، وحمزة يُقتل زمن المصاولة.
أنِسَ بالمدينة فنغَّص عليه المنافقون أُنسَه، استبشر بالنصر في بدر فأسرعت إليه غصة الألم في أُحد، أزهر وجهه كالقمر ليلة البدر فشجَّ بالسِّهام. وتلألأت أسنانه كالبرد فكسرت ثنيتُه في المعركة، سبقت ناقته الإبل فسبقها أعرابي على قعود، ليبقى أجره في الآخرة موفوراً، وسعيُه عند ربِّه مشكوراً. وليلقى ربَّه مسروراً، ليجتمع له الثواب كله، أوَّله وآخِرُه، قديمه وحديثه، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
واستحق ذلك لأنه صبر فله الزلفى، وتمام الرفعة، والوسيلة، والفضيلة. والمنازل الجليلة، لأنه صبر.
وله المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، لأنه صبر. وله الشفاعة، والخطاب، والقرب، والحظوة، لأنه صبر.
كذبوه،شتموه، سبوه، آذوه، فنزل ( اصبر على ما يقولون ).
حاربوه، نازلوه، طاردوه، قاتلوه، فنزل ( واصبر وما صبرك إلا بالله ).
هجروه، وأعرضوا عنه، وصدُّوا عن سبيله، وقفوا في طريقه، فنزل ( فاصبر صبراً جميلاً ).
طال عليه المدى، ترقّب النصر، كثر العدو، تزاحمت النكبات، فنزل ( فاصبر كما صبر أُولُوا العزم من الرسل ).
فصبر صبراً جميلاً في كل مقامات العبودية، صبر في رضاه وغضبه، وسلمه وحربه، وغناه وفقره، فصار إمام الصابرين، وقدوة الشاكرين.
اللهم ثبِّتنا على سنته، وفقنا لسيرته، وانصر بنا دعوته