ففي هذه الآية كما في قوله تعالى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ما يرشد إلى أن هذا البيت العتيق من أقدم البيوت وأعرقها في المجد والشرف.
وقد اختلف في أول من بنى البيت فقيل: إن أول من بناه الملائكة بأمر الله تعالى، ثم آدم عليه السلام، ثم أولاده حتى حجه نوح عليه السلام، ثم بناه إبراهيم الخليل حيث أرشده الله تعالى إلى مكانه، ثم العمالقة، ثم قبيلة جرهم، ثم قصي بن كلاب، ثم قريش على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم عبد الله بن الزبير رضي الله عنه سنة 65 هـ، ثم الحجاج بن يوسف سنة 74 هـ، ثم الخليفة العثماني السلطان مراد خان سنة 1040 هـ.
هذا عدا الترميمات التي يقوم بها الخلفاء المسلمون من الوقت إلى الوقت، وكان آخرها ما قام به الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود سنة 1377 هـ.
ثم ما تم في عهد الملك فيصل وخالد رحمهما الله تعالى، وأخيرا الزيادة الكبيرة التي تمت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله لخدمة الإسلام والمسلمين.
ومما ينبغي أن يلاحظ في تاريخ بناء البيت، أنه لا يوجد نص قطعي يشهد لبناء البيت قبل إبراهيم عليه السلام، بل ظاهر الآيات القرآنية يدل على أن أول بنائه كان على يد الخليل وولده إسماعيل. غير أنه لولا الرغبة في معرفة الحقيقة لما كان يهمنا البحث في هذا بالكلية لعلمنا أن البيت لم يشرف بقدم عهده، وطول بقائه، وإنما شرف بنسبته إلى الله تعالى، وبوضعه رمزا لتوحيد الله، ومنار هداية للعالمين، وقبلة لعامة المسلمين.
شرف البيت الحرام
لقد قالوا إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وإذا كان هذا صحيحا فإن لهذا البيت الأسماء العديدة والنعوت الكثيرة، فهو بيت الله، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والكعبة، والقبلة، والبيت ودعامة الإسلام.
ولكن هذا مهما كان فإنه لا أدل على شرف البيت من قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن قوله عز وجل: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن هذا البيت دعامة الإسلام، ومن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا على الله عز وجل إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة . ومن قوله صلى الله عليه وسلم : إن لله في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل هذا البيت، فستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين ومن قوله صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى الكعبة: لا إله إلا الله ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك، إن الله جعلك حراما، وحرم من المؤمن ماله ودمه وعرضه، وأن يظن به ظنا سيئا
مكانة الحجر الأسود والركن اليماني
ومن أشرف أجزاء البيت الحجر الأسود والركن اليماني، ولذا شرع تقبيل الأول واستلام الثاني، وقد قيل إن شرفهما كان لوضعهما على قواعد إبراهيم عليه السلام بخلاف الركنين الشاميين فلم يكونا على قواعده عليه السلام، وذلك أن قريشا لما بنت الكعبة غيرت وضعها فأخرجت منها ستة أذرع، وكان ذلك لعجزها عن النفقة الكافية لاتمام البيت على وضعه الأول، وسبب العجز: أنها لم تشأ أن تنفق على البيت إلا المال الحلال، والمال الحلال قليل وجوده عندها، فاقتصرت على بناء الموجود وتركت ستة أذرع إلى الحجر شمالا، فكان لذلك! الركنان الشاميان غير موضوعين على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلم يستحب استلامهما. وللحجر الأسود بالخصوص مكانة في نفوس المؤمنين، ومنزلة سامية عند جميع المسلمين، فهم يروون في شرفه وعلو مكانته من الأخبار والآثار ما يزيد هذا الحجر المقدس جلالا ومهابة، وشرفا وتعظيما ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : الحجر الأسود يمين الله في الأرض . وقوله: إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وقوله: يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق . وقوله: نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم
ويكفي هذا الحجر شرفا تقبيل سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم له، وقوله: أكثروا استلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذا أصبحوا وقد فقدوه، إن الله لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة .
وليس الركن اليماني بأهون شأنا أو أدل قيمة من شقيقه الحجر الأسود، فإن لكل منهما فضائل، ولكل منهما ميزات وخصائص، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر استلام الركن اليماني، وقيل له في ذلك فقال: ما أتيت عليه قط إلا جبريل عليه السلام قائم عنده يستغفر لمن استلمه وأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه وكل بالركن اليماني سبعون ملكا، فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قالوا: آمين
ومما يزيد هذا الركن تقديرا فى نفوس المؤمنين ما روي أنه من وضع يده على الركن اليماني، ثم دعا استجيب له.
ويعطيك العافيه