العبد عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضارِّه، محتاجٌ إلى الاستعانة بخالقه، والله –سبحانه- هو الصمد الغنيُّ عمَّا سواه، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه، والأسباب المجرَّدة تخذل المرء عن تحقيق مُناه، وقد يطرق بابًا يظنُّ أنَّ فيه نفعَه؛ فإذا هو ضررٌ محض، ولا ينجِّي من ذلك إلَّا التوكل على العزيز الرحيم، لذا عظَّم ربنا من شأن التوكُّل، وجعله منزلة من منازل الدين، وقرنه بالعبادة في قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وجعله سببًا لنيل محبته، فقال: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وجعله شرطًا لحصول الإيمان به: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
والتوكل فريضة من رب العالمين، أمر الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
والرسل هم أئمة المتوكلين وقدوتهم، قال تعالى عن نوحٍ -عليه السلام- أنَّه قال لقومه: {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ}[يونس: 71]، وقال الخليل -عليه السلام-: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، وقال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
والشيطان لا سلطان له على عباد الله المتوكلين، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل: 99].
والتوكل مانعٌ مِن عذاب الله، كما قال عزَّ وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [سورة الملك: 28-29].
وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس -رضي الله عنهما- بالتوكُّل وهو غلام؛ لتأصيل العقيدة في نفسه في بكور حياته، فقال: (يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله)[1].
في التوكل راحةُ البال، واستقرارٌ في الحال، ودفع كيِد الأشرار، وهو من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق، وبه قطع الطمع عمَّا في أيدي الناس، سُئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن التوكل، فقال: "هو قطع الاستشراف باليأس من الناس".
والتوكل على غير الله ذلٌّ وامتهانٌ للنفس، وسؤال المخلوق للمخلوق سؤالٌ مِن الفقير للفقير، قال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله عليك)[2].
ومتى التفت القلب إلى غير الله؛ وَكَله الله إلى من التفت إليه، وصار مخذولًا، قال عليه الصلاة والسلام: (من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه)[3].
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ما رجا أحدٌ مخلوقًا، أو توكَّل عليه؛ إلَّا خاب ظنه فيه، وكلُّ مَن أحب شيئًا لغير الله؛ فلا بد أن يضره، -قال-: "وهذا معلوم بالاعتبار والاستقراء، وأمور الدنيا وزيتنها قد يُدْرِك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم، والالتفات إلى الأسباب نقصٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب التي أُمر بها قدحٌ في الشرع، وعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله لا على الأسباب".
وحقيقة التوكُّل: القيام بالأسباب، والاعتماد بالقلب على المسبب واعتقاد أنَّها بيده، والموحِّد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنَّه لا يهملها أو يبطلها، بل يكون قائمًا بها ناظرًا إلى مسبِّبها –سبحانه- ومُجريها، وإذا قوِي التوكُّل، وعَظُم الرجاء؛ أَذِن الله بالفرج.
ترك الخليل زوجته هاجر وابنها إسماعيل صغيرًا رضيعًا بوادٍ لا حسيس فيه ولا أنيس، ولا زرع حوله ولا ضرع؛ توكُّلًا على الله، وامتثالًا لأمره، فأحاطهما الله بعنايته، فإذا الصغير يكون نبيًا.
ويونس -عليه السلام- التقمه حوتٌ في لُجَجِ البحر وظلمائه، فلجأ إلى مولاه، وألقى حاجته إليه: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87]، فنُبذ وهو سقيم في العراء، وما ضاع مجردًا في الخلاء.
وأمُّ موسى ألقت ولدها موسى في اليمِّ؛ ثقة في الله، وامتثالًا لأمره، فإذا هو رسول من أولي العزم المقرَّبين.
ويعقوب -عليه السلام- قيل له: إنَّ ابنك أكله الذئب، ففوَّض أمره إلى الله، وناجاه، فردَّه عليه مع أخيه بعد طول حزن وفراق.
ولمَّا ضاق الحال، وانحصر المجال، وامتنع المقال من مريم -عليها السلام-؛ عَظُم التوكُّل على ذي العظمة والجلال، ولم يبقَ إلَّا الإخلاص والاتكال، فأشارت إليه أن خاطبوه: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، فعندها أنطقه الله، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30].
ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يتوارى مع صاحبه عن قومه في جبلٍ أجرد، في غارٍ قفْرٍ مَخُوف، فبلغ الرَّوْع صاحبه، وقال: يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدميه؛ لأبصرنا، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو واثق بربه: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، فأنزل الله تأييده ونصره، وأمَّده بجنود لا تُرى، فسكن الجأش، وحصل الأمن، وتمَّت الهجرة، وانطلقت الرسالة.
وإذا تكالبت عليك الأيام، وأحاطت بك دوائر الابتلاء؛ فلا ترجُ إلَّا الله، وارفع أكفَّ الضراعة، وألقِ كَنَفك بين يدي الخلاق، وعلِّق رجاءك به، وفوِّض الأمر للرحيم، واقطع العلائق عن الخلائق، ونادِ العظيم، وتحرَّ أوقات الإجابة، كالسجود وآخر الليل، وإذا قويَ التوكل والرجاء، وجُمع القلب في الدعاء؛ لم يُرَد النداء، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، فسلِّم الأمر لمالكه، والله عزيزٌ لا يذِلُّ مَن استجار به، ولا يضيع مَن لاذ بجنابه، وتفريج الكربات عند تناهي الكرب، واليسر مقترنٌ بالعسر، وتعرَّف على ربك في الرخاء؛ يعرفك في الشدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها الخليلان في الشدائد، ومَن صدق توكُّله على الله في حصول شيء؛ نالَه، ومن فوَّض أمره إليه؛ كفاه ما أهمَّه، ومن حقَّق التوكُّل عليه؛ لم يَكِلْه إلى غيره، بل تولَّاه بنفسه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له؛ يكون توكُّلك عليه، فاجعل ربك وحده موضع شكواك، قال الفضيل -رحمه الله-: "والله لو يئستَ من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا؛ لأعطاك مولاك كلَّ ما تريد"، وهو سبحانه قدير، لا تتحرك ذرة إلَّا بإذنه، ولا يجري حادث إلَّا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلَّا بعلمه، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} سورة الشعراء: [217-219]، قال إبراهيم الخواص -رحمه الله-: "ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غيرَ الله".
ومن تعلَّق بغير الله، أو سكن إلى علمه وعقله، ودوائه وتمائمه، واعتمد على حوله وقوته؛ وَكَلَه الله إلى ذلك، وخذله، وأرجحُ المكاسب الثقة بكفاية الله، وحسن الظنِّ به، فتوكَّل على ربك في قضاء حوائجك، وكشف كروبك وهمومك؛ يفرِّجْ عنك ما أهمَّك، ويكشف عنك ما أغمَّك.
لفضيلة الشيخ/ عبد المحسن القاسم –حفظه الله-