تخطى إلى المحتوى

أعمى يسد الهدف 2024.

لم اكن جاوزت الثلاثين حين انجبت زوجتي أول أبنائي
ما زلت أذكر تلك الليلة….بقيت إلى أخر الليل مع الشله في أحدى الإستراحات..
كانت سهره مليئه بالكلام الفارغ….بل بالغيبة والتعليقات المحرمة..
كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم..وغيبه الناس..وهم يضحون..
أذكر ليلتها اني اضحكتهم كثيرآ..كنت أمتلك موهبه عجيبه في التقليد..
بإمكاني تغير نبرة صوتي حتى تصبح قريبه من الشخص الذي أسخر منه..
أجل كنت أسخر من هذا وذاك..لم يسلم أحد مني حتى اصحابي..
صار بعض الناس يتجنبني كي يسلم من لساني..
أذكر أني تلك الليله سخرت من أعمى رأيتهيتسول في السوق..والأدهى أني وضعت قدمي أمامه فتعثر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول..وانطلقت ضحكتي تدوي في السوق..
عدت إلى بيتي متأخرآ كالعاده..
وجدت زوجتي في أنتظاري..كانت في حاله يرثى لها..
قالت بصوت متهدج:راشد.. أين كنت؟
قلت ساخرآ:في المريخ..عند أصحابي بالطبع..
كان الإعياء ظاهرآ عليها..قالت والعبرة تخنقها: راشد أنا تعبه جدآ..الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكآ..سقطت دمعه صامته على خدها احسست أني أهملت زوجتي..كان المفروض ان اهتم بها وأقلل من سهراتي..خاصة أنها في شهرها التاسع..حملتها إلى المستشفى بسرعه..
دخلت غرفت الولادة..جعلت تقاسي الآلام ساعات طويله..
كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر..تعسرت ولادتها فانتظرت طويلآ حتى تعبت..فذهبت إلى البيت..وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني..
بعد ساعة..اتصلو بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم..
ذهبت إلى المستشفى فورآ..
أول ما رأوني أسال عن غرفتها..
طلبوا مني مراجعة الطبيبه التي أشرفت على ولادة زوجتي..
صرخت بهم:أي طبيبه؟!المهم أن أرى ابني سالم..
قالو..أولآ..راجع الطبيبة..
دخلت على الطبيبه..كلمتني عن المصائب..والرضى بالأقدار..
ثم قالت:ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنه فاقد البصر!!
خفضت رأسي..وأنا أدافع عبراتي..تذكرت ذاك المتسول الأعمى..الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس..
سبحان الله كمات تدين تدان!بقيت واجمآ قليلآ..لا أدري ماذا أقول..ثم تذكرت زوجتي وولدي..
شكرت الطبيبه على لطفها..ومضيت لأرى زوجتي..
لم تحزن زوجتي..كانت مؤمنة بقضاء الله.راضية..طالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس..كانت تردد دائمآ..لاتغتب الناس..
خرجنا من المستشفى..وخرج سالم معنا..
في الحقيقة..لم أكن أهتم به كثيرآ..اعتبرته غير موجود بالمنزل..
حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها..كانت زوجتي تهتم به كثيرآ..
وتحبه كثيرآ..أما أنا فلم أكن أكرهه..لكنني لم أستطيع ان أحبه!
كبر سالم..بدأ يحبو..كانت حبوتهغريبة..قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي..فاكتشفنا أنه أعرج..أصبح ثقيلآعلى نقسي أكثر..
أنجبت زوجتيبعده عمر وخالدآ..
مرت السنوات..وكبر سالم..وكبر أخواه..
كنت لا أحب الجلوس في البيت..دائمآ مع أصحابي..
في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم..ام تيأس زوجتي من إصلاحي..
كانت تدعو لي دائمآ بالهداية..لم تغضب من تصرفاتي الطائشة..
لكنها كانت تحزن كثيرآ إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته..
كبر سالم..وكبر معه همي..
لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين..
لم أكن أحس بمرور السنوات..أيامي سواء..عمل ونوم وطعام وسهر..
في يوم الجمعة..استيقظت الساعة الحادية عشر ظهرآ..
ما يزال الوقت مبكرآ بالنسبة لي..كنت مدعوآ إلى وليمة..
لبست وتعطرت وهممت بالخروج..
ممرت بصالة المنزل..استوقفني منظر سالم..كان يبكي بحرقة!
إنها المرة الأولى التي انتبه فيها إلى سالم يبكي منذ كان طفلآ..عشر سنوات مضت..لم ألتفت إليه..حاولت أن أتجاهله..فلم أحتمل..كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة..
التفت..ثم أقتربت منه..قلت :سالم!لماذا تبكي؟!
حين سمع صوتي توقف عن البكاء..فلما شعر بقربي..
بدأ يتحسس ما حوله بيديه الصغيرتين..مابه يا ترى؟!
اكتشفت أنه يحاول الإبتعاد عني!!
وكأنه يقول:الأن أحسست بي..أين أنت منذ عشر سنوات؟!
تبعته..كان قد دخل غرفته..رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه..
حاولت التلطف معه..
بدأ سالم يبين سبب بكائه..وأنا أستمع إليه وأنتفض..تدري ما السبب!!
تاخر عليه أخوه عمر..الذي أعتاد أن يوصله إلى المسجد..
ولأنها صلاة الجمعه..خاف ألا يجد مكانآ في الصف الأول..
نادى عمر..ونادى والدته..ولكن لامجيب..فبكى..أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين..لم أستطيع أن أتحمل بقية كلامه..
وضعت يدي على فمه..وقلت لذلك بكيت يا سالم!!قال:نعم..
نسيت أصحابي..ونسيت الوليمة..وقلت:
سالم لا تحزت..هل تلعم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟..
قال:أكيد عمر..لكنه يتأخر دائمآ..
قلت:لا..بل أنا سأذهب بك..
دهش سالم..لم يصدق..ظن أني أسخرمنه..استعبر ثم بكى..
مسحت دموعه بيدي..وأمسكت يده..
أردت أن أوصله بالسيارة..رفض قائلآ:المسجد قريب..أريد أن أخطوإلى المسجد..إي والله قال لي ذلك..
لا أذكر متى كانت أخر مرة دخلت فيها المسجد..
لكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف..والندم على ما فطرته طوال السنوات الماضية..
كان المسجد مليئآ بالمصلين..إلا أني وجدت لسالم مكانآ في الصف الأول..
استمعنا لخطبة الجمعه معآ وصلى سالم بجانبي..بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه..
بعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفآ..
استغربت!!كيف سيقرأ وهو أعمى؟
كدت أن أتجاهل طلبه..لكني جاملته خوفآ من جرح مشاعره..ناولته المصحف طلب مني أن أفتح المصحف على سورة الكهف..
أخذت أقلب الصفحات تارة..وأنظر في الفهرس..تارة..حتى وجدتها..
أخذ مني المصحف..ثم وضعه أمامه..وبدأ في قرأة السورة..وعيناه مغمضتان..يا الله!!إنه يحفظ سورة الكهف كاملة!!
خجلت من نفسي..أمسكت مصحفآ..أحسست برعشة في أوصالي..قرأت.. وقرأت دعوت الله أن يغفر لي ويهديني..
لم أستطيع الإحتمال..فبدأت أبكي كالأطفال..
كان بعض الناس لايزال في المسجديصلي السنة..خجلت منهم..فحاولت أن أكتم بكائي..تحول البكاء إلى نشيج وشهيق..
لم أشعر إلا بيد صغيرة تتلمس وجهي..ثم تمسح عني دموعي..
إنه سالم!!ضممته إلى صدري..
نظرت إليه..قلت في نفسي..لست أنت الأعمى..بل أنا الأعمى..حين إنسقت وراء فساق يجرونني إلى النار..
عدنا إلى المنزل..كانت زوجتي قلقة كثيرآ على سالم..
لكن قلقها تحول إلى دموع حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم..
من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد..
هجرت رفقاء السوء..وأصبحت لي رفقة خيرة عرفتها في المسجد..
ذقت طعم الإيمان معهم..عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا..لم أفوت حلقة ذكر أو صلاة الوتر..ختمت القرأن عدة مرات في شهر..
رطبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس..
أحستت أني أكثر قربآ من أسرتي..
أختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي..
الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم..من يراه يظنه ملك الدنيا ومافيها..
حمدت الله كثيرآعلى نعمه..
ذات يوم..قرر أصحابي الصالحون ان يتوجهو إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة..ترددت في الذهاب..استخرت الله..واستشرت زوجتي..
توقعت أنها سترفض..لكن حدث العكس!
فرحت كثيرآ..بل شجعتني..فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون أستشارتها فسقآ وفجورآ..
توجهت إلى سالم.. أخبرته أني مسافر..ضمني بذراعيه الصغيرتين مودعآ..
تغيبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف..
كنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدث أبنائي..
اشتقت إليهم كثيرآ..آآآآه كم اشتقت إلى سالم!!
تمنيت سماع صوته..هو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت..
إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم..
كلما حدثت زوجتي عن شوقي إليه..كانت تضحك فرحآ وبشرآ..
إلا أخر مرة هاتفتها فيها..لم أسمع ضحكتها المتوقعة..تغير صوتها..
قلت لها:أبلغي سلامي لسالم..فقالت:إن شاء الله..وسكتت..
أخيرآ عدت إلى المنزل..طرقت الباب..تمنيت أن يفتح لي سالم..
لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره..
حملته بين ذراعي وهو يصرخ:بابا..بابا..
لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت..
استغذت بالله من الشيطان الرجيم..
أقبلت إلى زوجتي..كان وجهها متغيرآ..كأنها تتصنع الفرح..
تأملتها جيدآ..ثم سألتها:مابك؟
قالت:لاشيء..
فجأة تذكرت سالمآ..فقلت..أين سالم؟
خفضت رأسها..لم تجب..سقطت دمعات حارة على خديها..
صرخت بها..سالم..أين سالم..؟
لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد..يقول بلثغته:بابا..ثالم لاح الجنة..عند الله..
لم تتحمل زوجتي الموقف..أجهشت بالبكاء..كادت أن تسقط على الأرض..فخرجت من الغرفة..
عرفت بعدها أن سالم أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين..
فأخذته زوجتي إلى المستشفى..
فاشتدت عليه الحمى..ولم تفارقه..حين فارقت روحه جسده..

هذه القصه رواها الشيخ: محمد العريفي.
من كتاب :في بطن الحوت.

يسلمووووووووو قصة راااااااااائعة
تستحق القراءه
تسلم الايادي
الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.