بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين والعن الدائم على أعدائهم أجمعين. *
تقدّم فيما سلف من شرح (دعاء مكارم الأخلاق) أنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه قد افتتح دعاءه بالصلاة على جدّه محمّد وآله سلام الله عليهم أجمعين، إذ ورد أنّ الافتتاح بذلك يعتبر من أسباب إجابة الدعاء من قبل الله تبارك اسمه.
:067:
:. العقوق والمبرّة
يقول الإمام سلام الله عليه: «ومن عقوق ذوي الأرحام المبرّة». العقوق لغةً من العقّ وهو الشقّ والحفرة الواسعة في الأرض، وأطلق «عاقّ الوالدين» على الولد الذي يؤذي والديه لأنّهما هما الذان يتركانه بسبب سوء موقفه تجاههما، فالعقوق وإن كان يستعمل في الوالدين عرفاً، كما تستعمل «القطيعة» في الأرحام غالباً، ولكن لا خصوصية لهذا الاستعمال فيهما لا في اللغة ولا في القرآن لأنّ العقّ هو الشقُّ والفصلُ الحاصل بين شيئين؛ ولذلك ورد في عبارة الإمام سلام الله عليه في هذا الدعاء: ومن عقوق ذوي الأرحام.
ولعلّ ما يطلق عليه بالعقيقة المتّخذة للمولد إنّما أُخذ مفهومها باعتبار الشقّ الحاصل بسببها بين هذا المولود وبين احتمال تعرّضه للمصائب والبلايا والآفات، فهي لذلك تسمّى بالعقيقة.
إنّ الحالة الغالبة بين الأرحام هي أن يعقّ بعضهم بعضاً، بسبب المشاكل والتوقّعات أو اختلاف الأذواق أو تضارب المصالح الشخصية، فتحصل بينهم هوّة وهذه الهوّة قد تزداد بمرور الزمن، وهذا في الأرحام شيء غير نادر، اللهمّ إلاّ أن يسارع ذو الأرحام في معالجة ذلك والسعي في إصلاح ذات البين.
والعلاج في العقوق كما هو في جميع البلايا – له ركنان، الأوّل: الدعاء، والثاني: السعي. فعلى الإنسان – كما قلنا مراراً – أن يسعى ويدعو، لا أن يدعو دون سعي، أو يسعى دون دعاء.
فالإمام سلام الله عليه يدعو الله تعالى أن يبدله هذه الحالة التي يبتلى بها الأرحام عادة – بسبب خطأ ما قد يصدر عن بعضهم عمداً أو سهواً – إلى حالة المعافاة.
من العادات الشائعة التي كان يُعمل بها سابقاً أكثر من الوقت الحاضر هو أن يُعمد إلى دفن الموتى من ذوي الأرحام في مكان واحد أو مقبرة واحدة. ولعلّ السبب أو الحكمة من ذلك – كما ذكره أحد العلماء مازحاً – أن يكون الموتى الأقرباء قريبين من بعضهم البعض، أو لتسنح لهم الفرصة في ممارسة العتاب الذي ربما لم يكونوا يرغبون في إظهاره في الحياة الدنيا…
إنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يسأل من الله تعالى – ونحن ينبغي أن نقتدي به لأنّه إمامنا المفترض الطاعة – أن يبدّل عقوق ذوي أرحامه بالمبرّة، أي: ياربّ لا تجعلني مّن يعملون ما من شأنه حصول القطيعة. ومعلوم أنّ المبرّة تعني الصلة وهي الطرف النقيض للعقو تماماً.
ولن يتسنّى ذلك بسهولة ما لم يسع الفرد إلى دفع أو رفع وإزالة المشاكل التي توجب العقوق والشقاق. فلا ينبغي أن نقع في الغفلة أو التغافل عن أُولي أرحامنا بداعي سوء الظنّ أو النظر في المصالح المادّية البحتة، أو تتقطع سبل التواصل معهم بسبب الخجل أو ما أشبه.
وجذوة القول في معنى هذا الطلب هو أن يتوسّل المرء بربّه ليعافيه عن الابتلاء بعقوق ذوي الأرحام، لما فيه من التفكّك الأُسري والاجتماعي، فضلاً عن سخط الله تعالى.
:. ة الأقربين
ثمّ يدعو الإمام سلام الله عليه بالنصّ التالي: ومن خذلان الأقربين الة، ومعلوم أنّ الأقربين أعمّ اصطلاحاً من أُولي الرحم.. وهم مَن يعيش الإنسان معهم بصورة أشمل وأطول، كالجيران فيما بينهم، وزملاء المدرسة ومحيط العمل، فأفراد هذه الأصناف قد يعيش بعضهم مع بعض ويقترب بعضهم من بعض حتّى تصل درجات التأثير المتبادل بينهم حدّاً لا يمكن تميزه.
وهؤلاء الأقربون قد يكونون أُولي رحم، أو غرباء، أي أنّهم قرابة من حيث اللغة وإن افترقوا من حيث السبب.
والمهمّ في الأمر أنّ الخذلان عادة ما يصدر من هؤلاء الأقربين تجاه بعضهم، كأن لا يتساعدون لحلّ مشكلة أصابت أحدهم، نظراً إلى أنّ من ديدن الأشخاص غالباً الاجتماع حول ذي الثروة أو النفوذ، والانفضاض عمّن يفتقر إلى عوامل القوّة.. وهذه هي حالة الدنيا الدنيئة، حيث تصاب المقايس والموازين الاجتماعية بحالة من البؤس والضعة.. فترى الملتفّين حول الفرد الثري كثيرين، بينما الفقير لا أحد حوله باستثناء من هو مثله أو أدون منه.
:sddhgh:
والإمام سلام الله عليه يحرّضنا بدعائه هذا على أن نطلب من ربّنا الكريم أن يبدل خذلان الأقربين بمحبّتهم لنا ليونا عند حاجتنا إليهم.
إذن، فهنا قضيّتان مهمّتان: قضية الدعاء، وقضية السعي نحو تطبيق أو تفعيل مضمون الدعاء؛ بمعنى أنّ الفرد كما يحبّ أن يه الأقربون عند اجته إليهم، كذلك عليه أن يضع في حسبانه تقديم الة لهم عند حاجتهم إليه، لدفع أكبر نسبة ممكنة من احتمالات الخذلان عند الحاجة، فهو إذا خذل قريبه حين يحتاجه، فليتوقّع خذلان قريبه له كذلك.
:. مداراة الناس
ثمّ يقول الإمام سلام الله عليه: ومن حبّ المدارين تصحيح المقة.
المقّة: المحبّة. وهنا نكتة يجدر الإشارة إليها وهي: لولا تصريح الإمام سلام الله عليه بهذه الجملة الفائقة البلاغة لما فطن إليها البلغاء والفصحاء، ولما تنبّهوا إلى معناها الدقيق.
لقد حثّ الإسلام على مبدأ المداراة بين الناس وافترض للمدارين جزاءً موفورا. وقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: من مات مدارياً، مات شهيداً(1) والمتواتر عن السيرة النبوية الشريفة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو سيّد الأخلاق الحميدة، الذي وصفه الله تعالى في كتابه بقوله: (وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم)(2) أنّه كان يعامل الناس معاملة هي الغاية في الحكمة والطيبة حتّى ليظنّ كلّ منهم أنّه أحبّ الناس إلى نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله فكان المصداق الأكمل للمدارة.
فإن كان المرء لا يحبّ أحداً، فلا يلزمه أن يظهر هذا الإحساس له أو يبديه في وجهه.. وهذا من الأُمور المستحبّة، حتّى ورد في النبويّ الشريف أنّ نصف العقل مداراة الرجال(3) فيعاملهم معاملة يتصوّرون أنّه يحبّهم.. وهذا ليس من النفاق في شيء، بل هو من مقتضيات العقل وأُصول الأخلاق الرفيعة؛ إذ لا شكّ في وجود الاختلاف والتفاوت في الأذواق والأساليب والتوجّهات بين الناس، ولكن ليس من الضروري أن يظهر المرء كلّ ما في قلبه للآخرين، بل من الضروري أن يبدي احترامه لأذواقهم وأساليبهم وتوجّهاتهم وآرائهم، كما يمكنه أن يعكس وجهة نظره ورأيه أو طبيعة ذوقه وما يرتئيه من أُسلوب بالصورة المناسبة والحكيمة، لكي لا يقع الشقاق وتحلّ الفُرقة.
وهذا النصّ من الدعاء الشريف يشير إلى أهميّة طلب المرء من ربّه أن يساعده في تحويل المودّة الظاهرية التي نعبّر عنها بالمداراة من قبل الناس له، إلى حبّ باطني حقيقي يضاعف الترابط الاجتماعي ويكرّس العلاقة الطيبة بينه وبين الأفراد.
وبذلك يُفهم من سياق النصّ وكأنّ الإمام سلام الله عليه يقول: يا إلهي وسيّدي! اجعل من الحبّ الظاهري الذي يبدو بسبب مداراة الناس لي، حبّاً واقعياً نافذاً في صميم قلوبهم.
:. الاستفادة من بلاغة المعصومين عليهم السلام
وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية وضرورة الاستفادة من بلاغة الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، لنتعلّم من أساليبهم الحكيمة ما يعود علينا بالفائدة والنجاح في التواصل مع الآخرين.
فمن البلاغة مثلاً عدم استساغة التكرار في الكلام، أي أنّ المعنى الواحد إذا كان بحاجة إلى التكريس والتكرار، فمن الجميل أن لا يتكرّر الفظ نفسه، وإذا تكرّر المعنى الواحد حكميّاً جيء به في قوالب لفظية مختلفة، لكي يكسبه جمالاً على جمالٍ، ويجعله أكثر وقعاً في نفس الفرد المخاطَب.
مثاله مفردة (المقة) فإذا راجعنا مصادر اللغة نجد أنّ هذه المفردة تعني المحبّة، ورغم أنّ الإمام زين العابدين سلام الله عليه هاهنا يناجي الله تعالى – وحديثه ليس موجّهاً لنا نحن ليعلّمنا أُسلوب الخطاب وكيف نتخب الطريقة الأجمل في الكلام، ورغم إيمان الإمام بغنى الله تعالى عن أساليب البلاغة، وعلمه المسبق بأحوال عباده – إلاّ أنّه سلام الله عليه مع ذلك يستعمل البلاغة وجمال التعبير حتّى في مقام الدعاء والطلب من الله تعالى، كيف لا وهو المعصوم الذي يعلم علم اليقين بأنّ الله جميل يحبّ الجمال، وهذا الجمال يشمل فيما يشمل جمال الألفاظ وحسن التعبير وبلاغة البيان، كما يعلم سلام الله عليه علم اليقين أنّ العبد ملزم بمعرفة موقعه وحقيقته كمخلوق تجاه خالقه. ورغم أنّ الله غنيّ عن ألفاظه، إلاّ أنّه ملزم بانتخاب الأجمل والأروع والأبلغ في الكلام.
ولذلك؛ فإنّ الإمام سلام الله عليه لم يكرّر عبارته تلك ولم يقل: «من حبّ المدارين تصحيح المحبّة»، بل استخدم لفظة (المقة) لتكريس جمالية الأُسلوب في مناجاته مع الله تعالى.
:. نموذج من البلاغة القرآنية :7_5_125v[1]:
ومن طريف ما يُذكر في هذا المجال (في المطوّل وغيره) أنّ فصحاء العرب اجتمعوا سنوات في بداية البعثة حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله في مكّة المكرّمة قبل الهجرة، ليصوغوا جملة تكون رادعة للقتل والتناحر، وبعد نقاش ومداولة طويلة، أقرّوا عبارة (القتل أنفى للقتل) بعد أن أُعجبوا بها كلّ الإعجاب من حيث الفظ وقلّة عدد الحروف وعمق المعنى، ولكنّ الله عزّ وجلّ أنزل على رسوله الكريم آية القصاص التي قال فيها: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)(4) فأمر النبيُّ صلى الله عليه وآله أصحابَه أن تكتب قطعة من هذه الآية وهي (ولكم في القصاص حياة) وتعلّق على جدار الكعبة إلى جانب عبارة كفّار قريش التي كانت معلّقة في المكان نفسه، وجاء فصحاء القوم فرأوا أنّ لفظ الآية ومدلولها أبلغ وأجزل، ومعناها أتمّ وأجمل من عبارتهم فرفعوا لوحتهم، وذلك لأنّهم لاحظوا أنّه لا تكرار في الآية فضلاً عن أُسلوب المخاطبة بكلمة (لكم) وعمق المعنى المؤدّى في كلمة (القصاص) وأرجحيّتها على كلمة (القتل)، فضلاً عن وجود كلمة (الحياة) ومعطياتها التي تفتقر إليها عبارتهم، مّا جعلهم يرضخون لبداعة الأُسلوب القرآني وإعجازه.
:7_5_125v[1]:
:. لنتعلّم من القرآن ومن أهل البيت سلام الله عليه
ونحن من جانبنا ينبغي أن نتعلّم من القرآن الكريم ومن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، لنرتقي مدارج البلاغة وحلاوة التعبير شيئاً فشيئاً، لأنّ الفظ بمثابة الإناء، والمعنى بمثابة المحتوى. فإذا كان الإناء جميلاً ومحتوياته كذلك، كان ذلك مدعاةً إلى القبول والإقبال، أمّا إذا كان الإناء غير جميل، فلن تكون ثمّة ضمانة في تقبّل المحتويات وإن كانت على شيءٍ من الجمال في نفسها. وعلى ذلك؛ فإنّ الأمر المسلّم به هو أنّ للتعبير الجميل مدخلية مباشرة في استساغة المعنى، حتّى في حال المناجاة مع الربّ العظيم تبارك وتعالى، لأنّه جميل يحبّ الجمال.
:. فنّ المعاشرة!
ثمّ يقول الإمام السجّاد سلام الله عليه بعد ذلك: ومن ردّ الملابسين كرم العشرة.
في هذه العبارة يعيد الإمام الكرّة في استخدام الأُسلوب الجميل وانتخاب الكلمات الأبلغ في التعبير.
فالملابسون هم المعاشرون أنفسهم، ولذلك لم يقل سلام الله عليه: (ومن ردّ المعاشرين كرم العشرة)، أو: (من ردّ الملابسين كرم الملابسة)؛ نظراً لأنّ المعاشرة هي الملابسة، وهي كناية عن معاشرة الناس فيما بينهم حتّى يكون القرب فيما بينهم كقرب الإنسان من لباسه. وبسبب هذا القرب والاقتراب تنكشف النواقص والمساوئ في الأخلاق والفعال، ولذلك تكثر الخلافات وردود الأفعال، وهذا ديدن المتعاشرين.
من هنا، يجدر بالإنسان أن يطلب من ربّه الكريم أن يحوّل الخلافات وردود الأفعال من السوء إلى الكرم، فتكون العلاقة بينه وبين القريبين منه والملابسين له علاقة المعاشرة الطيّبة والكريمة، لا علاقة النقد الهدّام أو الاغتياب والانتقاص أو الحسد، فالعشرة لها كرامة، أو هكذا ينبغي أن تكون؛ وكأنّ الإمام سلام الله عليه يريد أن يقول: فامنحهم ياربّ هذا الكرم لئلاّ يردّوا عليّ ما يعرفون أو يزعمون أنها من نواقصي.
وهنا كما سبق في نظائره يلزم أن يعمل الإنسان أمرين:
الأوّل: أن يبادر هو قبل أيٍّ كان إلى أن يكون فرداً كريماً في معاشرته للآخرين، فلا يردّ عليهم بالؤم وسوء الأدب، وإنّما يعاملهم بالحسنى ما استطاع.
الثاني: أن يطلب من ربّه التكرّم عليه بأن يساعده على تحويل ردّ الملابسين المعاشرين – له، ويبدل صدودهم بعشرة كريمة؛ ملؤها السماحة والإنصاف والعقلانية.
:. الأمن من الظالمين
ثمّ يطلب الإمام سلام الله عليه الأمن والاستقرار مناجياً ربّه تبارك وتعالى فيقول: ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة.
ومعلوم أنّ للخوف مرارة أشدّ وقعاً من مرارة الآلام البدنية التي قد تقضّ مضجع المريض، فيهجر لها نومه وتسلب راحته، ولكها رغم ذلك تبقى آلاماً بدنية تزول وتنسى بزوال أسبابها، بينما الخوف ذو مرارة وآلام تمسّ الروح والبدن معاً، لا تزول أو تنسى وإن زالت دواعيها. ومن هنا جاء في الحديث الشريف: نعمتان مجهولتان: الصحّة والأمان(5) مّا يعني لزوم أن يستشعر الفرد نعمة الأمن وهو يرفل في بحبوحته ويطلب من ربّه أن لا يبتليه بظلم الظالمين، فيضطرّه إلى مكابدة مرارة الخوف منهم.
بلى! قد يكون الشعور بالخوف حالة إيجابية وبنّاءة إذا كان من طرف العادل، كالربّ العزيز ذي الحكم العدل، أو من نار جهنّم التي لا يدخلها المخلوق إلاّ بما كسبت يداه وسعت إليه قدماه، بالإضافة إلى أنّ حدود هذا الخوف تبقى بيد الإنسان، وهو الذي يمسك بموازينها. فالإنسان المحكوم إذا قدّر له العيش تحت مظلّة حاكم أو رئيس عادل، فإنّه سيحدّث نفسه أنّ من الخطأ الخوف، لأنّ العقوبة التي يمارسها الحاكم العادل تعود في نهاية المطاف إلى الفرد المحكوم أساساً، إذا ما اجترح سيّئة أو عملاً غير قانوني يستوجب ذلك، وإلاّ فإنّ الحاكم العادل رجل مأمون الجانب لا يبتغي لنفسه نفعاً جرّاء حكمه.
بينما الحاكم الظالم أو ربّ العمل الظالم أو المعلّم الظالم أو البائع الظالم أو غيرهم يختلف عن ذلك بكثير، إذ لا يُعلم سبب ظلمهم أو مقداره أو زمنه مادام يصبّ في نفع الظالم.
:. قصّة فيها عبرة :11_1_209[1]:
مّا ينقل في هذا المجال أنه في إحدى البلدان عزم رئيسها على إرسال قاضٍ إلى إحدى المناطق، إلاّ أنّ حاكم تلك المنطقة سرعان ما قام بقتله، وحتّى يتبيّن له السبب في ذلك، قام بإرسال قاضٍ آخر، ولكنّ الحاكم ألحقه بالقاضي الذي سبقه، الأمر الذي أدّى بعض القضاة إلى الامتناع عن التوجّه إلى ممارسة القضاء في تلك المنطقة. غير أنّ أحدهم تبرّع بقبول المنصب لقاء أجرٍ باهض جدّاً، مدّعياً أنّه سيعمل على الكشف عن أسباب مقتل القاضين اللذين سبقاه، ومن ثم يعلم رئيسه ليقضي على الحاكم وفي الوقت نفسه يكسب ثقة الرئيس بعلمه وعمله لكي يضمن لنفسه بعد ذلك منصباً أرفع وأجراً أعلى. وحين توجّه إلى تلك المنطقة أخذ بمسامرة ومجالسة حاكمها، ليعرف منه أسباب قتله القاضين السابقين بصورة مباشرة، ولما اطمأنّ به الحاكم بعدما أخذ بمجامع عقله وقلبه، قال له: إنّه لم يقتل القاضي الأوّل إلاّ بعد أن رأى في منامه ذات مرّة أنّه عدوّ لدود له، وحينما استيقظ مرعوباً، أمر بقتله فوراً. أما القاضي الثاني فرأى فيه رؤيا وكأنه حلّ مكانه حاكماً، فزع والشرّ يتطاير من عينيه، فألحقه بصاحبه.
فلما سمع القاضي الثالث تلك الإفادة لم يجد بدّاً حينها إلاّ الهروب والعودة إلى رئيسه، مؤكّداً له بأنّه يعجز عن أن يأمن جانب حاكم أن يقتله ويلحقه بالقاضين الآخرين بسبب رؤيا يراها في حقّه.
إذن ليس كلّ خوف له مرارة. أمّا الخوف من الظالم فإن له مرارة شديدة، لأنّه لا يُعلم ماذا سيصدر عنه، ولأي سبب سيعاقب، وكيف ومتى سيعاقب ويعتدي. ولا يكفي أن يحتاط المرء في تجنّب ما نهى عنه، ما لم يسأل الله عزّ وجلّ أن يحرسه بعينه التي لا تنام، ويرعاه في الصحة والأمان.
:icon_razz:
:. الدقّة في تعابير الإمام سلام الله عليه
ينبغي الإلتفات جيّداً إلى أنّ جميع الجمل التي تفوّه بها الإمام السجّاد سلام الله عليه في دعائه الشريف هذا، قد طلب فيها من ربّه أن يبدله عن الحالة السيّئة بحالة جيّدة، فعن عقوق أرحامه بمبرّتهم، وعن ردّ الملابسين بكرم العشرة، وعن بغضة أهل الشنآن بالمحبّة، ولكنّ الإمام سلام الله عليه هنا في هذه الجملة من الدعاء لم يطلب من الله تعالى أن يجعل ظلم الظالم أمناً؛ لأنّه إذا أمن الناس جانبه لم يعد ظالماً بعد، بل طلب من الله تعالى أن يبدل مرارة الخوف من الظالم إلى الشعور بالأمان، أي عدم العيش تحت ظلّ الظالم، وإلاّ فإنّ الظالم لا يتوقّع منه غير الظلم!
انظروا دقّة التعابير في دعاء الإمام سلام الله عليه: فإنّ ظاهر عبارة الإمام تغيير حالة أُولئك، أمّا الظالم فإمّا أن لا يكون ظالماً أو اجعلني اللهمّ في مكان وزمان بعيدين عن الظالم، لأنّ وجود الظالم يعني وجود الخوف من ظلمه.
:7_5_121[1]:
:. الدعاء دعوة للت وحصيل ملكة العدالة
ومقطع الدعاء هذا يتضمّن فيما يتضمّن أن يهجر الإنسان الظلم ويمتنع عن ممارسته تجاه نفسه أوّلاً، وتجاه الآخرين ثانياً، بمعنى أن يعي الإنسان مدى الحكمة في وجوب تحصيل ملكة العدالة، وهو وجوب عقلي، كما هو الواجب على كلّ مكلّف غير بالغ مرتبة الإجتهاد والاستنباط أن يكون مقلّداً أو محتاطاً في عباداته ومعاملاته.
فإذا أراد الفرد أن يمتنع عن المعصية، فالواجب عليه أن يخالف هواه وأن يكون مطيعاً لمولاه، ومن أولويات ذلك عليه أن يخلق وينمّي ملكة العدالة في نفسه، باعتبارها مقدّمة لممارسة طاعة وليّ أمره.
ولعلّ من أروع الفرص المتاحة أمام الإنسان لتنمية هذه الملكة، وتقويتها هي فرصة الأشهر الحرم ذات الفضيلة والأرجحية على باقي الشهور، فكما يمكن للراغب أن يستثمر هذه الأشهر في مضاعفة ثواب الصلاة والصيام والصدقة، كذلك يمكنه أن يستثمرها في الارتقاء بمستوى أخلاقه الحميدة وحسن سلوكه الذي لا يوصف ثقله في ميزان العبد يوم القيامة حتّى ليجرّ صاحبه جرّاً إلى الجنّة!! كما في الحديث: ما وضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق…(6).
لا شكّ أنّ حسن الخلق الراجح – الذي هو أحد أركان ملكة العدالة – إنّما يرتجى من داخل نطاق الأُسرة كما يرتجى من خارجها، ولا شكّ أيضاً أنّ هذا الإنجاز ليس بالأمر السهل، تبعاً لوجود الموانع الصعبة والقوية، والتي منها وساوس الشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء التي ترهق الإنسان بأحمال لا طاقة له بها، فترديه إلى المهالك.
وبالتالي؛ فإنّ من لم يطرد الشيطان، أو يبذل قصارى جهده في مهمّة نبذه عن كيانه، وعجز في الوقت ذاته عن كبح جماح نفسه الأمّارة بالسوء، فليتيقّن خسارته للدنيا والآخرة من الأساس، فهؤلاء الطغاة والظلمة الذين مارسوا الحكم التعسّفي ثمّ ماتوا، إنّما ماتوا من فرط شهوات أنفسهم الأمّارة بالسوء، كشهوة البطن والجنس، وخير شاهد على ذلك أنّ القليل النادر من الطغاة من يصادفه الحظّ فيعمر طويلاً، إذ لا تدع لهم شهواتهم وتكالبهم على حطام الدنيا فرصة العيش في الدنيا طويلاً، كما يؤيّد هذا المضمون بعض الأحاديث الشريفة، التي تصف الأكول الذي يأكل أكثر من حاجة بدنه، حيث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم، ومكسلة عن العبادة(7).
ولكنّ الأنبياء سلام الله عليهم، وعلى مقدّمتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وكذلك أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانوا أعرف الناس بالدعاء والجأر إلى الله تقدّست أسماؤه، كذلك كانوا أكثر الناس سعياً لتكريس معاني الدعاء، فكانوا يتحمّلون المشاقّ والجوع والأذى والقتل من أعدائهم بل حتى من أقاربهم وأصدقائهم ومن بعض أتباعهم، وكم سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وجاهد وعانى ودعا إلى جانب ذلك، حتّى يرسم للإنساية النموذج الربّاني الأصدق، فصار القدوة الحسنة لسائر الأجيال.
فمن المفترض على الفرد المؤمن أن يجعل من الدعاء عاملاً مهمّاً في شحذ همّته وإقدامه على ما ينبغي له أن يقوم به من الطاعات، وما ينتهي عنه من المحرّمات، إذ الدعاء عامل دفع إلى ممارسة الخير من جانب، وعامل كبح للشهوات من جانب آخر، نسأل الله أن يوفّقنا لذلك.
وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين :428: