[FONT=Arial]
أوقف مروان سيارته "المرسيدس"… جوار منزله… وأمسك رأسه بيده في شيء من الضجر.
لا يشك من ينظر إليه أنه يتألم من الصداع… أخرج المفتاح من مكان التشغيل… وأداره في الدرج المقابل لمقعد الراكب… وأخرج كيساً مليئاً بالأدوية.
وقبل أن يفتح باب السيارة للنزول… لفت نظره ذلك الرجل المستلقي على الرصيف… بدا الرجل يغط في سبات عميق… حذاءه الكبير التي تلطخت بالأسمنت والزيت متجة صوب وجه مروان… ولثامه الكثيف لا يسمح لمن يدقق النظر أن يعرف شيئاً عن تقاسيم وجهه… وقد انتشرت في سرواله- الجنز- خروق كثيرة… بعضها مرقع… والبعض الآخر يُبرز بياض جسده… وعندما يقلب الناظر بصره في الشارع… يعلم أن هذا النائم هو أحد عمال الحفريات… التابعة لمصلحة الصرف الصحي.
الغريب أن مروان كان منشداً مع المنظر… ومع وضع هذا الرجل… وكان يتأمل فيه بعينين فاحصتين.
وفي تلك لأثناء… قرع صوت المؤذن آذان الغادي والرائح… مرتفعا بالنداء لصلاة الظهر… بل وقرع آذان النائم .
ومع أول صوت من الأذان… تحرك الرجل النائم… وما لبث أن استيقظ.
وعندما أزل اللثام عن وجهه… أشرقت ملامحه بابتسامة الرضي عن نفسه… وكأن ابتسامته تلك… توحي بعميق سعادته… لنومته الهانئة.
جلس باعتدال… وبدأ يخلع حذاءه… ثم مد يده ليزيل الأتربة العالقة في قميصه.
ومروان قابع في سيارته يتابع المنظر… بكل تركيز.
قام الرجل… وانطلق إلى الأمام… بعد أن تعهد نفسه…… إنطلق إلى هناك… إلى حيث دورات المياه المجاورة للمسجد… ونزل مروان… ودخل منزله.
الواقع أن عمال المصلحة… يأخذون فترة للراحة والغداء… من الساعة الحادية عشرة… إلى الثانية بعد الظهر… ثم يواصلون عملهم إلى الساعة الخامسة مساءاً.
الغريب أن مروان بعد أن دخل فلته الفارهة… صعد لدور الثاني… ووقف متسمراً بجوار النافذة المطلة على الرصيف… الذي رأي عامل المصلحة ينام عليه.
انقضت صلاة الظهر… عاد العامل من المسجد… وجهه الوضيء… لا يخالطه من كدر… وقد أجرت الصلاة فيه لمسة سحرية من النشاط.
جلس في مكانه السابق… على الرصيف… وتناول كيساً قد وضعه بجوار إحدى آلات الحفر… وفتحة.
مروان واقف في النافذة… عيناه تتسعان وتضيقان… إنه ينظر ويتأمل.
وضع العامل الكيس أمامة… فتحة بهدوء… أخرج السكين… نظر فيها جيدا:
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>" يبدو أنها تحتاج أن تغسل"
قام العامل في نشاط… أتجه ناحية البرميل الأسود هناك… أفرغ القليل من الماء على السكين… بدأ يدلكها حتى تأكد من نظافتها… ثم عاد إلى مكانه… وجلس… ومد يده… وأدخلها في الكيس… وأخرج خمسة أرغفة… من الخبز الأسمر… وأخرج كيسا صغيراً… يحوي مكعبين من الحلاوة الطحينية… وكيسا آخر… يحوي مكعبا كبيراً بعض الشيء… من الجبنة البيضاء… المصرية… وكيسا ثالثاً فيه ثلاث حبات من الطماطم… وخمس من الخيار… وضعها أمامة… أخذ السكين… وبدأ يقطع الطماطم والخيار… ثم تناول الخبز… وبدأ يأكل.
كانت شهيته منفتحة… وكانت رغبته في الأكل لا توصف… وكانت السعادة ترسم لوحة بديعة على محياه… توقف عن الأكل فجأة… حمل قنينة بحوارة… بدأ يشرب بعض جرعات الماء… ثم عاد إلى طعامه… في غضون ثلاث دقائق… أنتهى العامل من الأكل… أعاد ما بقي من الطعام في الكيس… ربما احتاج أن يأكله لا حقا… مسح فمه بيده الخشنة… وقال:
<!–[if !supportLists]–>– <!–[endif]–>" الحمد لله"
ثم استدار مكانه… ولفَّ اللثام على وجهه… ووضع الكيس تحت رأسه… ومد بدنه ثانية… ليُسْلمه إلى سبات عميق.
كل ذلك يحصل… ومروان واقف أمام النافذة… يرقب الموقف… ويمد حبل أفكاره إلى تقاطيع البدن الممدد على الرصيف.
ولكن… يقطع أفكاره تلك… نداء زوجته أصيل:
– " مروان… الغداء جاهز… لقد أعددت لك طبقاً من ورق العنب… المحشو باللحم والرز المصري… وطبقاً من المكرونة… وطبقاً آخر من أدام البازلا… وقبل ذلك… الطبق المفصل… كبسة الرز واللحم… و…"
قاطع مروان حديثها قائلاً:
– " أرجوك… ليس عندي أدني شهية للأكل"
– " ماذا تقول يا مروان؟… لماذا؟… ثم… ثم أنت كطبيب… تدرك تماماً أهمية وجبه الغدا… وتدرك أيضاً أهمية تنوع أصنافها"
– " لم تكن حاجتي للطعام… في أي الأيام… بأكثر من حاجتي إلى الاستقرار والسعادة"
– " ما هذا الكلام يا مروان؟… كأنك تتكلم بلسان إنسان محروم… إن السعادة كلها قد اجتمعت بين يديك… ولا ينقصك أي شيء… كلٌ يتمنى أن يعيش حياتك… بل كلٌ يتمنى أن يقابلك… أو يجلس معك… فلماذا هذه النظرة السوداوية؟"
أطرق مروان قليلاً ثم تمتم:
-"ماذا لو قلت لك… إني أريد أن أعيش حياته!"
-"من تقصد؟"
-" لا لا أحد…"
قالت أصيل:
– " السعادة يا زوجي الحبيب… تقاس بقدر ما يحصله الإنسان… من تسهيلات الحياة… ومن جمالها"
– " تقصدين هذا القصر… الذي نسكنه… ولا يشاركنا فيه إلا الخادمة… وتلك السيارات… التي نركب كل سنة مديلاً حديثاً من مديلاتها… وتلك الشهادة… نعم… (دكتوراه في جراحة المخ والأعصاب)… وأشغل وظيفة عميد للكلية!… نعم… عميد لكلية الطب… كل هذا كذب… كذب… لم يقدم لي السعادة… أنا أعيش في شقاء"
– " ماذا جرى لك يا مروان… إنك منذ أجريت عملية القلب الأخيرة… ولست على ما يرام… مع أن زميلك الدكتور حمدي… الذي أجرى العملية لك… من أكابر الأطباء… وقد طمئنك بنجاح العملية… وبأن صحتك أصبحت على أفضل ما يرام".
– " أنا لا أتكلم يا أصيل عن الأمراض التي في جسمي… أنا الآن أسير إلى الأحسن… ولكن… أنا أتكلم عن أمراض روحي"
– " لقد نسينا الطعام… وأخشى أن يبرد… لنترك هذا الحديث جانباً… هيا لطّعام"
هز مروان راسه… وسارا إلى مائدة الطعام… جلس… مد يده… ولم يزد على أن تناول لقمتين… ثم قام… واتجه إلى سريره… وسط ترجيات زوجته له… بأن يكمل طعامه
أنطرح مروان على سريره… آلاف الأفكار تدور في ذهنه… بدأ يتذكر الرصيف… ويتذكر النومة الهانئة… هناك.
مد يده إلى الغطاء الوثير على السرير… بدأ يتحسسه… تسائل في نفسه:
– " هل هو سعيد بنومه على الرصيف… أكثر من سعادتي بنومي هنا… على السرير الوثير!؟"
مروان يتقلب على السرير… وكأنه يتقلب على الجمر… مر الوقت عليه… ولم يجد النوم إلى جفنيه طريقاً… قام وهو يتحسر… كان يفكر في شيء ما…
قعد مروان في سريره… فكر قليلا… إنه يريد أن يذهب إلى صاحب الرصيف… ذلك الرجل البسيط… شيء ما يدفه لمقابلته… ولكن:
-" لا… لا… صعب جداً… من يكون ذلك العامل… ومن أكون أنا… هو عامل فقير… وأناعالم ثري… هو قبيح قذر… وأنا… نظيف جميل… الكلمة مني يسمعها الكثير… ويطيعونها… أما ذاك… فإنه يسمع كلام الكثير… ويطيعه… لا… لا… إن ذلك الحقير أقل من أن أقوم من أجله… أو أذهب إليه"
فكر مروان قليلا… قال في نفسه:
[FONT=Arial]<!–[if !supportLists]–>- <!–[endif]–>[COLOR=black]" ولكن… أنا كطبيب… يجب أن أهتم بأحوال الناس… وأقوم بدراسة ميدانية لنفسياتهم… لعلي أستفيد خبرات معينة… وأكون صورة متكا