* المن والزهور تقول روزا أنا بيرز، الباحثة المشاركة في الدراسة الأسبانية، ان العسل، بالإضافة إلى قيمته كمادة شديدة الحلاوة، يُوفر لنا كمية عالية من المواد المضادة للأكسدة والمواد المقاومة للميكروبات. وما تقوله الباحثة هو أن العسل اكتسب في السنوات الماضية شهرة علمية طبية، مبنية على دراسات وتجارب، تُؤكد أنه غذاء صحي، خاصة في ضوء الدراسات التي فحصت قدراته على محاربة الميكروبات وعلو محتواه من المواد المضادة للأكسدة، وهي المواد التي تعطل أنواعا من التفاعلات الكيميائية المُتلفة لمكونات وتراكيب الخلايا الحية نتيجة تواجد مركبات الجذور الحرة الشديدة الضرر
وأضافت إن ثمة مؤشرات علمية متزايدة تتحدث عن الدور السلبي للجذور الحرة في التسبب بالأمراض، كالأمراض العصبية والذهنية، والسرطان، وتصلب الشرايين وظهور ترسبات الكولسترول فيها، والتسارع في ظهور علامات الشيخوخة، والتهابات المفاصل، والتغيرات الجينية التي تطال نواة الخلية في الجسم كمقدمة باعثة على الإصابة بالسرطان.
وكان الباحثون من الولايات المتحدة، قد أكدوا في عام 2024 على أن نسبة مركبات العسل في أجسام، على اختلاف حجمها، من تناولوا ما بين أربع إلى عشر ملاعق من العسل يومياً قد ارتفعت بشكل حاد. ولم يكن واضحاً لدى الباحثين والمراجعين لتلك الدراسة ما هي أنواع العسل الأعلى والأقل في محتوى المركبات المضادة للأكسدة. وما حاولت الدراسة الأسبانية الإجابة عليه هو هذا الأمر.
وقام الباحثون الأسبان بالنظر إلي 36 نوع من العسل الأسباني. وشملت مجموعة العسل مجموعتين، عسل الزهور clover honey الذي يجمع النحل فيه رحيق أنواع مختلفة من زهور النباتات flower blossoms. والنوع الثاني عسل المن، وهو ما يُكونه النحل من تناوله المواد السكرية اللزجة والملتصقة على نباتات وأشجار أخرى. وهي مواد سكرية لزجة تظهر على أجزاء الأشجار نتيجة لإفرازها من قبل بعض أنواع الحشرات، مثل حشرة المن aphids. وهي من أنواع حشرات العثة التي تصيب النباتات وتعيش عليها.
ووفق ما تم نشره في عدد فبراير من مجلة علوم الأغذية والزراعة، فإن عسل المن يحتوي كميات أعلى من المركبات المضادة للأكسدة. وعلي وجه الخصوص فإن النوع الأسباني منه أغمق لوناً وأكثر حامضية، ويحتوي على كميات عالية من المركبات المضادة للأكسدة أسوة ببقية أنواع عسل المن من المناطق الأخرى في العالم.
وأشارت الباحثة الأسبانية إلى أن العسل بالإضافة إلي زيت الزيتون والفواكه والخضار هي كلها مصادر ممتازة للمواد المضادة للأكسدة. والمعروف أنه كلما زاد لون المنتج النباتي الطبي غُمقاً وكلما زاد عبق رائحته، كلما ارتفعت محتوياته من المركبات المضادة للأكسدة.
إلا أنها أكدت على جانب تجب العناية به، وهو أن الإكثار من العسل يعني الإكثار من تناول السكريات. لأن أكثر من 80% من مكونات العسل هي سكريات من الأنواع السهلة الامتصاص. ولذا يجب حساب الكمية المتناولة منه مع الكميات الأخرى من السكريات التي يتناولها المرء خلال يومه. وإشكاليات سكر العسل مع رفع نسبة السكر في الدم لها جانبان، الأول هو أنها عالية المحتوى، والثانية هي أنها سهلة الامتصاص من قبل الأمعاء. ما يعني حث البنكرياس على الإفراز بسرعة لكميات كبيرة من الأنسولين. ولذا فالتعامل مع العسل بشكل صحي يتطلب أمرين، الأول إبقاء الكمية المتناولة منه ضمن حدود ما يجب أن تكون عليه كميات السكريات، أي أن لا تتجاوز 55% من طاقة الوجبة الغذائية اليومية. والثاني هو تناول العسل مع مواد غذائية لا تسمح بسهولة امتصاص الأمعاء له. مثل الدهون. ولذا فإن عبارة الأقدمين في المديح بالقول مثل «السمن على العسل» هي عبارة صحيحة وصحية لأن السمن حينما يتناوله المرء مع العسل، فإنه يُخفف من سرعة امتصاص الأمعاء لسكر العسل. وكذا حرص البعض في بعض المناطق العربية على تناول العسل مع السمسم أو غيره من المنتجات النباتية الدهنية.
* العسل العربي وبالرغم من أن جميع أنواع العسل مفيدة للصحة وغنية بالمركبات والمواد المُؤثرة بشكل إيجابي في حالات مختلفة من الأمراض، إلا أن الدراسة الأسبانية الجديدة تطرح أمرين مهمين، إضافة إلي ما احتوته من معلومات عالية القيمة حول نوع المن من بقية أنواع العسل. الأول: أن الأبحاث العلمية الطبية، على وجه الخصوص، تتقدم اليوم حول محاولة معرفة كيفية تعليل الفوائد الطبية للعسل في معالجة القروح والجروح وحمايتها من عدوى الميكروبات. وأن ثمة تقنيناً طبياً في توفير ضمادات تحتوي العسل المعقم للاستخدام الطبي هذا. الثاني: أن أنواع العسل واختلافاتها تعني أن ثمة اختلافات في التركيب وفي التأثير. وما قام به الأستراليون من قبل، ويقوم الأسبان به اليوم، ما هو إلا دليل على أن من واجب الباحثين في المناطق العربية إجراء دراسات على الأنواع المتوفرة في مناطقهم. وخاصة منها أنواع الجزيرة العربية، كعسل السدر أو عسل الطلح أو عسل المجرى أو غيرها. وذلك لثلاثة أسباب رئيسية، الأول هو أن الباحثين من مناطق العالم، كل في جهته، يقول إن عسل منطقة كذا أو نوع كذا منه، له فوائد. ويذكرونها بناء على دراسات وتجارب. والثاني أن ثمة موروثات ثقافية وطبية في مناطق الجزيرة العربية وغيرها، لا ينبغي أن تضيع هدراً دون أن يستفيد الباحثون منها، تُؤكد على أن ثمة فوائد طبية لكل نوع منها. ولذا يُقال بأن عسل السدر مثلاً مفيد في كذا وكذا، بينما عسل الطلح مفيد في أمور أخرى، وعسل الزهور كذلك. هذا بخلاف الحديث الأنواع المتوفرة في بلاد الشام أو المغرب العربي. والثالث أن مما يتعلق الناس به بقوة في المناطق العربية هو العسل في بحثهم عن العلاج والشفاء، وحُق لهم ذلك. ومع تفشي أمراض السكري وغيرها، فإن ثمة ضوابط للاستخدام يجب أن تكون واضحة لهؤلاء الناس كي يستفيدوا من العسل دون أن يكون تناوله مُضراً بهم. إذْ من غير المقبول ومن غير المنطقي أن يقول طبيب لمريضه إن لديك مرض السكري وعليك تجنب العسل. كيف وهو الغذاء الذي فيه شفاء!.
* مزيج غذائي العسل مزيج من العناصر الغذائية، والتي أهمها السكريات. ويشكل سكر الفروكتوزfructose (الفواكه) حوالي 38%، سكر الغلوكوز glucose 31%. أما بقية السكريات فتشمل السكروز والمالتوز وسكريات معقدة أخرى. كما ويحتوي على مجموعة واسعة من الفيتامينات، تشمل فيتامينات بي ـ6 والثيامين والنياسين، وغيرها كثير. إضافة إلى عناصر الكالسيوم والنحاس والحديد والمغنيسيوم والمنغنيز والفوسفات والصوديوم والبوتاسيوم والزنك، وكذلك أحماض أمينية متعددة. لكن تظل المركبات المضادة للأكسدة، من أهم ما هو في العسل. ومحتواه من الماء يجب أن لا يتجاوز 18%. والمحافظة على جودة العسل بنسبة الماء هذه تعني أنه سيكون بإمكان العسل البقاء لفترات طويلة دون أن يفسد أو تنمو فيه الميكروبات. ولذا فالحرص عند فحص العسل على التأكد من نسبة الماء فيه هو لهذه الغاية.
ومن هذا المزيج وخصائصه تظهر الفوائد الصحية. وبعبارة أخرى، لا يبدو فيما تم إجراؤه من تحاليل حتى اليوم على أن العسل يحتوي مادة او مواد لا توجد البتة في غيره، لكن ما يُميز العسل، والأنواع النقية منه، هو تركيبة مزيجها في تجميع العناصر الكثيرة تلك ضمن مُنتج غذائي واحد. ولذا فإن البحث في العسل لا يجب أن يتناول عناصر التركيب كل على حدة، بل المزيج بأكمله. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف مكونات مزيج أنواعه باختلاف عوامل شتى في إنتاجه وتكوينه.
ومثلاً، ضمن تفاعل عوامل شتى، فإن مزيج العسل يتميز بخاصية أزموزية Osmotic effect تجعل من الصعب نمو الميكروبات فيه. كما أن احتواءه على مركبات يُمكنها التفاعل عند إذابة العسل في الماء وتركه لحوالي عشرة دقائق لتكوين مركب ثاني أوكسيد الهيدروجين Hydrogen peroxide ، فائدة أخرى في القضاء على البكتيريا. والفارق بين قدرة العسل هنا على تكوين هذه المركب واستخدام السائل الطبي من ثاني أوكسيد الهيدروجين، هو أن العسل يُكون المركب هذا بكميات قليلة ومتواصلة، ما يعني أن وضع العسل على الجروح يُؤمن توفير هذا المركب القوي، في القضاء على البكتيريا، لفترات طويلة. بخلاف تنظيف الجرح بسائل ثاني أسيد الهيدروجين مباشرة. وكذلك دور حموضة العسل التي تخفف وتقضي على نمو البكتيريا.
من هنا فإن الفوائد التي تُرجى من تناول العسل والمركبات المضادة للأكسدة فيه هي أيضاً فريدة بالمقارنة مع مصادر أخرى للمواد المضادة للأكسدة.
* مضادات الأكسدة.. مواد حافظة للصحة > مثلما تُستخدم المواد المضادة للأكسدة في حفظ المنتجات الغذائية كمواد حافظة لها من التلف، فإن مضادات الأكسدة تفعل نفس الشيء في جسم الإنسان. والفكرة العلية الطبية حول مضادات الأكسدة بسيطة في عرض عباراتها، وهي أنها نظام للوقاية والحماية للجسم. لكن ليس ضد الميكروبات، كما يفعل جهاز المناعة، بل ضد مركبات كيميائية وتفاعلاتها الضارة على مستويات شتى، بدءا من أجزاء تكوين الخلية نفسها ووصولاً إلى أعضاء كاملة في الجسم.
و الأكسدة عبارة عن تفاعلات كيميائية متلفة Oxidative damage تتطلب تحويل الكترونات من مادة إلى مادة مؤكسدة أخرى. وما تفعله مضادات الأكسدة هو إبطاء أو منع حصول هذه التفاعلات، لأنها تفاعلات ضارة بالجسم. ولذا فإن الكائنات الحية جميعها، بدء من التي تتكون من خلية واحدة ووصولاً إلي المكونة من مليارات الخلايا، تعتمد نظاماً معقداً وتحافظ على كفاءته وسلامته في القيام بعمليات منع الأكسدة. وأبسط الأمثلة هو زيت الزيتون. إذْ أن وجوده داخل الثمرة يحميه من الأكسدة والتزنيخ والفساد، وكذلك ما تُوجد من مواد مضادة للأكسدة تحميه أيضاً من تأثيرات الضوء أو الحرارة في تنشيط تفاعلات الأكسدة فيه طالما كان محتوياً على المواد الحافظة الطبيعية الخارجة مع عصر واستخراج زيت الزيتون. ولذا لو طال أمد بقاء زيت الزيتون متعرضاً للحرارة أو الضوء أو الهواء فإنه يفسد ويتلف. وكذلك الحال مع خلايا جسم الإنسان.
إن ما يُسبب الكثير من الأمراض هو عدم قدرة الجسم على وقف أو إبطاء عمليات الأكسدة فيه. ولذا فإنه وبنشاط الأكسدة تترسب مركبات الكولسترول داخل جدران الشرايين. وبنشاط عمليات الأكسدة تتغير نواه الخلايا لتظهر الخلايا السرطانية في الأنسجة المختلفة في الجسم. وبنشاط عمليات الأكسدة تعتري بشرة الإنسان وجلده تغيرات السنين والتقدم في العمر. وبنشاط عمليات الأكسدة تتغير قدرات خلايا الدماغ على حفظ الذاكرة وقدرات استرداد المعلومات من مخازنها في خلايا الدماغ، فيظهر العته والخرف. وهكذا تتسبب الأكسدة بكثير من التغيرات المرضية في الجسم، والتي لا علاقة ظاهرية لها بالميكروبات أو غيرها.
تفاعل الجسم مع البيئة التي نعيش فيها والعناصر التي تشكلها هو ما نحتاج لمقاومته جهازا من مضادات الأكسدة الفاعلة بكفاءة في مقاومة تأثيراتها علينا. وهذه التأثيرات السلبية تمر عبر طريق ما يُسمى بالجذور الحرة free radicals . وهي مواد قد تتمكن من أن تعيث فساداً في الجسم، ما لم تتم السيطرة عليها بالمواد المضادة للأكسدة.
* عسل المن.. من أندر أنواع العسل > تناول النحل للمواد السكرية التي تفرزها الحشرات التي تتغذى على أنواع من الأشجار والنباتات، هو ما يُنتج نوعاً من العسل يُدعى بالمن. وأشهرها في أوروبا تلك التي تتغذى على إفرازات حشرات aphid Marchalina hellenica التي تتغذى على أنواع من الصنوبر التركي Turkish Pine. وهذا النوع من العسل يُعتبر من أنواع العسل الطبي في أوروبا وغيرها من المناطق لأن طعمه ومذاقه ليس كالمعتاد من أنواع عسل الزهور الذي بالإمكان استخدامه مباشرة في الأكل أو صناعة الحلويات أو كبديل للسكر. كما أن الأنواع المتوفرة من عسل المن في نيوزيلندا تأتي من تناول النحل لإفرازات حشرة حرشفية سوداء، تعيش في غابات منطقتين من الشواطئ فيها. هذا بالإضافة إلى الأنواع الألمانية من عسل المن للغابة السوداء.
لكن ثمة مشكلة في تغذية النحل حال اعتماده في تغذيته على هذا النوع من السكريات، وهي أن هذه الإفرازات السكرية لا تحتوي على بروتينات. بخلاف رحيق الزهور المحتوي على غبار حبوب اللقاح الغنية بالبروتينات protein-rich pollen ، واللازمة لنمو النحلة نفسها.
ويمتاز العسل هذا بعبق رائحته القوي، وغمق لونه الذي يأخذ لون العنبر أو الأحمر البني الغامق، وكثافة تكوين كتلته. وللعسل من هذا النوع محبيه والباحثين عنه. والتحليل الكيميائي له يُظهر احتوائه على 16% ماء، 38% سكر فروكتوز، 27% سكر غلوكوز، 3% سكر سكروز، 7% أحماض ومعادن.
وبالإضافة إلي هذا النوع القليل التوفر من العسل، فإن ثمة النوع الممزوج من العسل. وهو أكثر الأنواع توفراً في الأسواق العالمية. حيث تُمزج لتكوينه أنواع شتى من عسل المصادر المختلفة. أما أنواع العسل المخصصة لبعض أنواع الزهور أو مجموعة محددة منها، فهو أقل أيضاً توفراً وإن كان أكثر من وجود عسل المن. مثل عسل التفاح أو الكرز أو الليمون أو البرتقال أو دوار الشمس أو الزعتر البري أو غيرها.