إن الترخص في بعض الأمور التعبدية عند الحاجة هو من اليسر في هذا الدين , ومن القواعد الشرعية المعروفة والمعمول بها عند العلماء أن المشقة تجلب التيسير , ويقول الله تعالى ( فاتقوا الله ما ستطعتم ) التغابن (16) , ويقول الله تعالى (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم أبراهيم ) الحج (78) , وملة أبينا إبراهيم هي الحنيفية السمحة, وفي الحديث" بعثت بالحنيفية السمحة " , والإسلام كله سماحة وتيسير على المؤمنين في عباداتهم .
ولا تجد عبادة إلا والتيسير يتلازم معها فإن مرض المسلم خففت العبادة عنه حتى لا تشق عليه وإن سافر تقلصت عدد الركعات وأخرت عن وقتها , وفي الصوم جاز له الفطر والقضاء في وقت أخر , بل حتى في الحج إذا حصل للحاج أمر طارئ فله أن يتحلل من أحرامه ويحج في وقت أخر .
وهنا سنتطرق لرخصة من رخص الوضوء لدفع المشقة عن المتوضئ , وهي رخصة المسح على الخفين أو الجوربين , عندما يغطيان عضو من أعضاء الوضوء وهو القدمين , والوضع الطبيعي هو أن يتوضأ المسلم عند كل صلاة ويغسل أعضاء الوضوء فلا تصح منه صلاة من غير وضوء ويبقى وضوئه صحيحا ما لم ينتقض فإذا أنتقض وجب عليه فعل وضوء أخر حتى يتمكن من الصلاة , والوضوء واجب لكل صلاة كانت صلاة فريضة أو نافلة أو سنة راتبة أو تحية مسجد أو غيرها .
والوضوء ملازم لأداء الصلاة وهو شرط لصحة الصلاة فلا صلاة من غير وضوء , والوضوء هو طهارة بصفة معينة بالماء فإذا فقد الماء وجب عليه التيمم بالتراب وهو الصعيد الطاهر فإذا فقد الاثنان فبنية الوضوء كأن يكون مسجونا في غرفة ليس فيها ماء ولا تراب , فليس عليه وضوء ويكفي النية في ذلك وهذه استطاعته يقول الله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .
ولبس الخف أو ما يسمى بالحذاء الطويل الذي يغطي الكعبين أو الجوارب التي تغطي الكعبين جائزا في الصلاة إذا لبست والقدمين على طهارة , ومن شرطها أن تكون ساترة لمكان الوضوء الذي ينبغي له أن يغسل عند الوضوء , فكان المسح عليهما جائزا لمشقة الخلع ثم اللبس مرة أخرى عند كل صلاة , فتلك المشقة جلبت التيسير , فبين لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن القدم إذا كانت على طهارة ثم لبس عليها حذاء يستر الكعبين أو جوارب تستر الكعبين فلا داعي لخلعهما بل يكفي المسح عليهما , ذكر البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين , فمسح عليهما " .
ومدة المسح يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر , فقد روى البخاري في الدراية بسند حسن عن أبي بكر الصديق قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت في المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، وللمقيم يوما وليلة " .
ووقت المسح يبدأ من أول حدث بعد لبس الخفين فيمسح من أول وضوء بعد اللبس ويبدأ الحساب ليوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر , فلو مسح وهو لا بس الخف صلاة المغرب فينتهي فترة المسح للمغرب من الغد ولا يحتسب تجديد الوضوء من غير ناقض بل لا بد من ناقض ثم يبدأ وضوء جديد ليمسح على الخفين ثم يحسب يوما وليلة .
ومن الصحابة المشهورين بفقه المسح على الخفين هو علي ابن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الصحابة , فقد روى مسلم في صحيحه عن شريح ابن هانئ قال : أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين : فقالت : عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسألناه فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر , ويوما وليلة للمقيم , قال وكان سفيان إذا ذكر عمرا أثنى عليه .
وذكر النووي رحمه الله في شرحه أنه أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين ، في السفر والحضر ، سواء كان لحاجة أو لغيرها حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن ( كبير السن ) الذي لا يمشي أن يمسح ، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج ولا يعتد بخلافهم ، وقد روي عن مالك – رحمه الله تعالى – روايات فيه ، والمشهور من مذهبه كمذهب الجماهير ، وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى – : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم " كان يمسح على الخفين " .
ويجوز المسح على الحذاء المخرق والجوارب المخرقة ولفافات القماش الساترة للقدمين إلى الكعبين وعلى كل ما يقوم مقام الجورب إذا كانت لا تزال تتحمل اللبس وتثبت على القدم .
وإذا كان الذي يمسح مقيم ثم سافر فإنه يترك الحساب بفترة المقيم ويبدأ من حين سفره بحساب فترة المسافر ويخلع خفه ويتوضأ , وإذا كان مسافرا ثم وصل إلى بلده فيتحول إلى حساب فترة المقيم ويجدد النية ويخلع خفيه ويتوضأ .
إن الله رخص لهذه الأمة في كثير من العبادات رحمة بها وتيسيرا عليها لإزالة الحرج عنها , فليتعلم المسلم كيف يعمل بهذه الرخص وخاصة من يحتاج إليها بكثرة كالعساكر والأطباء والعمال وأصحاب المهن الذين تحكمهم الحاجة , وغيرهم الذين يشق عليهم خلع أحذيتهم وفك رباطها وإزالة الجوارب عند كل صلاة , أسئل الله العظيم أن يفقهنا في ديننا ويعلمنا ما ينفعنا …. والحمد لله رب العالمين
المسح على الخفين
شكرلكم