(انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ
فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ)."1"
ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- أن من أنواع التوسل المشروع
التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به العبد،
واستدلوا بقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)"2"،
وقول الله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)"3"،
وكذا استدلوا بحديث أصحاب الغار."4"
لقد أخذ سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- الإخلاص والعمل الصالح، مطيَّة للقدوم على الله،
ومع ذلك كانت نفوسهم وجِلة، فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وأنعم عليهم بجزيل أفضاله، وكثرة إنعامه.
إن السؤال هنا وأنتِ يا فتاة الإسلام، يا ابنة خديجة وحفصة وأسماء،
ما العمل الذي ترينه فَرَجاً لك عند الكربات، تَدَّخرينه في المُلِمَّات، ترتجين أن يكون سبباً لتكفير الخطايا والسيئات؟
فقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها."5"
، قال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل)"6".
إذن احرصي على أن يكون بينكِ وبين الله سر من عمل صالح، تخفينه ما استطعت حتى عن أقرب الناس إليك،
تبتغين به وجه الله تعالى، تدَّخرينه ليوم القيامة، حيث
(لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)"7"
فإنَّ للعمل الصالح، المُتَّصف بشرطي القبول: الإخلاص والمتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-
عظيم الأثر على صاحبه في الحياة الدنيا والآخرة، فهو مطمئن النفس، آمن من الخوف، ليس للهوان عليه سبيل، يتنعَّم من خير إلى خير، ومن طاعة إلى طاعة،
(فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا
حسرات والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)"8"
فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسنى يوم القيامة فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين)"9".
فهل لكِ يا ابنتي خبيئة في صلاتك تؤدِّين الصلاة المفروضة، والسنن الرواتب، أو صلاة الليل بخشوع!!؟
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ:
(مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ
وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ
وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ
وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)"10".
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتاً في الجنة أربع ركعات قبل الظهر و ركعتين بعده،
و ركعتين بعد المغرب، و ركعتين بعد العشاء، و ركعتين قبل الفجر)"11".
فقد كانت أم الحسن بن صالح تقوم ثلث الليل، وتبكي الليل والنهار، فماتت ومات الحسن،
فرُؤي الحسن في المنام فقيل: ما فعلت الوالدة؟ فقال: بُدِّلت بطول البكاء سرور الأبد"12".
وعمرة امرأة حبيب العجمي: كانت توقظه بالليل، وتقول: قمْ يا رجل، فقد ذهب الليل،
وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا"13".
(كان يجيء فيدخل معي في فراشي قالت ثم يخادعني كما تخادع صبيها فإذا علم أني قد نمت
سلّ نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي قالت: فقلت له: يا أبا عبد الله كم تعذب نفسك!! ارفقْ بنفسك،
فقال: اسكتي ويحك، فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زماناً)"14".
أم هل لكِ يا ابنتي خبيئة في بِرِّك بوالديك خفضاً لصوتك، ومبادرة لأمرهما، ودعوة لهما، وقضاء حاجتهما؟!
يقول صلى الله عليه وسلم:
(الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)"15".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ)"16"،
(قَالَ أَهْل اللُّغَة: مَعْنَاهُ ذَلَّ وَقِيلَ: كُرِهَ وَخُزِيَ، وَأَصْله لَصْق أَنْفه بِالرِّغَامِ، وَهُوَ تُرَاب مُخْتَلَط بِرَمْلٍ،
وَقِيلَ: الرُّغْم كُلّ مَا أَصَابَ الْأَنْف مِمَّا يُؤْذِيه. وَفِيهِ عَلَى الْحَثّ عَلَى بِرّ الْوَالِدَيْنِ، وَعِظَم ثَوَابه.
وَمَعْنَاهُ أَنَّ بِرّهمَا عِنْد كِبَرهمَا وَضَعْفهمَا بِالْخِدْمَةِ، أَوْ النَّفَقَة، أَوْ غَيْر ذَلِكَ سَبَب لِدُخُولِ الْجَنَّة
، فَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ فَاتَهُ دُخُول الْجَنَّة وَأَرْغَمَ اللَّه أَنْفه)"17".
وتأمَّلي -يا رعاك الله- حال السلف في تعاملهم مع والديهم، اجعلي هذه الصور ماثلة أمام عينيك،
تَطَبَّعي بها، حاولي أن تَتَمثليها في حياتك وفي تعاملك:
ذُكِرَ عن عبد الله بن عون أنه نادته أمه من بعيد، فأجابها من بعيد، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين"18"
. وسُئل الإمام ابن عساكر محدث الشام عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي"19".
وهو سبب للقبول وإجابة الدعاء فعن عمر بن الخطـاب -رضي الله عنه- قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:
(يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَـانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ
إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)"20".
أم هل لكِ يا اخيتي خبيئة في رعاية المحتاجين، وتفريج كربات المكروبين، والصدقة على المساكين؟!
فإن: (صدقة السر تطفئ غضب الرب)"21"
. وهذه أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- يصدق فيها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً)"22"،
فكانت الأطول يداً في الخير والصدقة والبذل، وكانت تُكنّى بأم المساكين
لأنها تعمل بيدها وتتصدق، فقد توفيت -رضي الله عنها- سنة عشرين من الهجرة."23"
وهذا زين العابدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل
، فيتصدق به، قال عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين فغسّلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره،
فقالوا: ما هذا؟! قالوا: كان يحمل جُرْب الدقيق، يعني: أكياس الدقيق، ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة."24"
إنَّ الأعمال الصالحة في شرعنا الكريم لا حدود لها فهي مائدة تحوي ما لذَّ وطاب،
وما يتناسب مع مهاراتك وقدراتك، وما تستطيعينه في عُسرك ويسرك، وفي صحَّتك وسقمك،
وفي ليلك ونهارك، فتخيَّري، واستكثري من الخيرات، فإنها قربى إلى الله،
(صنائع المعروف تقي مصارع السوء و الآفات و الهلكات، و أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)."25".
وإليكِ بعضاً منها:
(أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله -عز و جل- سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً)"26"
،(ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزلّ الأقدام)"27".
(الساعي على الأرملة والمسكين كالساعي في سبيل الله "وأحسبه قال: القائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)"28".
(تبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة،
وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة،
وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)."29"
(خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)"30".
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
(أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)."31"
(مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: جَنَاهَا)."32"
يقول الدكتور محمد العريفي: "33" "قبل عشر سنوات، في أيام ربيع، وفي ليلة باردة كنت في البر مع أصدقاء
، تعطّلت إحدى السيارات، فاضطررنا إلى المبيت في العراء، أذكر أنا أشعلنا ناراً تحلقنا حولها،
وما أجمل أحاديث الشتاء في دفء النار!! طال مجلسنا، فلاحظت أحد الإخوة انسلَّ من بيننا،
كان رجلاً صالحاً، كانت له عبادات خفية، كنت أراه يتوجه إلى صلاة الجمعة مبكراً، بل أحياناً وباب الجامع لم يُفتح بعد..!!
قام وأخذ إناءً من ماء، ظننت أنه ذهب ليقضي حاجته، أبطأ علينا، فقمت أترقبه، فرأيته بعيداً عنا،
قد لفّ جسده برداء من شدة البرد وهو ساجد على التراب، في ظلمة، يتملق ربه ويتحبب إليه.
أيقنت أن لهذه العبادة الخفية، عِزّاً في الدنيا قبل الآخرة،
مضت السنوات، وأعرفه اليوم، قد وضع الله له القبول في الأرض،
له مشاركات في الدعوة، وهداية الناس، إذا مشى في السوق أو المسجد، رأيت الصغار قبل الكبار يتسابقون إليه، مصافحين، ومحبين،
كم يتمنى الكثيرون، من تجار، وأمراء، ومشهورين، أن ينالوا في قلوب الناس من المحبة مثل ما نال، ولكن هيهات..
أأبيتُ سهرانَ الدجى وتبيتُه نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي؟"
أختاه.. اعقدي العزم منذ الآن على أن تكون لك خبيئة من عمل صالح،
اعزمي عزيمة جادة على استثمار شبابك، على استغلال أوقاتك، على زرع غِراس يانعات لكِ في الجنة،
بعزيمة صادقة، وهِمَّة عالية، وأهداف واضحة كالشمس.
وتذكَّري أن العمل مهما قَلَّ، فإن النيَّة الصادقة تُعَظِّمه، فعن ابن المبارك رحمه الله قال:
(رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ)"34"
، وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ رحمه الله: (إنَّما يريدُ الله-عز وجل- منكَ نيَّتَك وإرادتكَ)"35"،
وعن بعض السَّلَف قال:
(مَنْ سرَّه أن يَكْمُلَ له عملُه، فليُحسِن نيَّته، فإنَّ الله-عز وجل- يأجُرُ العَبْدَ إذا حَسُنَت نيَّتُه حتى باللُّقمة). 36