"هزني الشوق والحنين ، إلى مرابع تاليوين ، فوجدت بمدخلها قوما مجتمعين ، ينصتون إلى ثلة من الخطباء المفوَّهين، وخبراء التربية المحنـّكين . فشدَّ جمعهم انتباهي ، واستفسرت في شأنهم بعض أصحاب المقاهي ، فقالوا : "هؤلاء هم الذين بشروا في العام الماضي بالإصلاح ، يبدو أنه استعصى عليهم وراح ، وسقطت من أيديهم الألواح ، وغـُمَّ عليهم فقاموا يحاربون طواحين الرياح ، ويطاردون الأطياف والأشباح . عادوا من جديد بعد أن صوروه لأنفسهم وللناس كأنه أعجوبة ، فإذا هو محض أكذوبة ، وعبث كعبث النافخ في قربة مثقوبة ." استفزني كلامهم ، وغاظني ملامهم ، فقلت فيهم ، لعلي عن رأيهم أثنيهم :
أنتم تعيقون الجهودا وتقضون يومكم قعـودا
ما همَّكم إن أصلحوا أو غيروا هذا الجمودا
إن النفـوس إذا خبتأبدت قنوطا أو جحـودا
وقررت أن أحضر المَجْـمَع ، فليس من يرى كمن يسمع . وتسللت بين الحاضرين ، يدفعني فضول دفين ، وتوق لمعرفة الخبر اليقين . وتطلع الحشد الغفير، إلى المنصة التي يتوسطها نائب الوزير، وتساءلوا عن الرجل القصير (مفتش مركزي لمادة التربية الموسيقية) ، الذي غطت ملامحَه سحنة شرقية ، فإذا هو مبعوث من المصالح المركزية ، العارف بخفاياها وبجوهر ما فيها من حقيقة ، والعازف على أوتارها الغليظة والرقيقة ، وضابط إيقاعها في كل ساعة ودقيقة. فبدأت الجلسة ، ورفع كل حاضر رأسه ، ليلتقط ما يقال جهرة أو خلسة . وكان المنشط هو الداعية إلى "تيويزي (مسؤول عن مكتب الشراكة بنيابة تارودانت ، مفتش التعليم الابتدائي ، سبق أن شغل منصب مندوب لوزارة الثقافة) ، المشهود له في حقل الثقافة بالتبريز ، وفي الكلام بالنقش والتطريز . فبسمل وحوقل ، ثم أثنى وأجزل ، وساق أحاديث نبوية ، تحث على طلب العلم ولو في أقصى الكرة الأرضية ، ولم يحدد هل هو " تايوان " أم الصين الشعبية. قلت : هذه مقدمة مألوفة ، وأقوال شريفة معروفة ، فأين الجديد؟ عسانا منه نفيد ونستفيد ؟
وتكلمت المنصة ، فأطنب كل واحد دون أن يُعمِل مِقصه ،أثنى على المجتمع المدني ، ودوره في إشاعة الحس الوطني ، وأكد أن الهدف من المنتدى هو الحوار ، والمساهمة في اتخاذ القرار ، وتحويل اللاجودة إلى جودة ، وتمكين ضحايا التسرب المدرسي من العودة ، حتى لا يجد المدرس نفسَه في القسم وحده . ولا مناص من مساءلة الواقع ، عن السبب والدافع ، وراء انتشار الرداءة والتردي ، واقتراح حلول التصدي ، والبحث عن أساليب المواجهة والتحدي .
وانفتحت الكلمة على الرأي الآخر، فأوجز البعضُ والبعض حاضر، وأسر قوم رأيهم والبعض جاهر، وعارضت ثلة وقليل منهم ناصر. وعند التعقيب على هذا الكلام ، تراشقت الوزارة ونيابتها بعبارات الاتهام : فالمشاكل المحلية تعالج في عين المكان ، حتى تنام عين الوزارة بهدوء وأمان ، وهي مع ذلك بصيرة ، ويدها ما كانت قط قصيرة ، وأنفها ما انفك ينحشر في كل صغيرة وكبيرة ، والمدرسة المغربية هي مدرستنا ، سواء أكانت هناك أم هنا .
وافرنقع الجمع بعد التناقش ، ثم انصرفوا إلى التوارش ، مشيا على الأقدام ، وتنفيذا للأحكام . فكأنهم أتباع المدرسة المشائية ، أو متزعمو مسيرة احتجاجية. وبينما كانوا في ورشاتهم يحولون اللا جودة إلى جودة ، طارت المنصة في غفلة منهم نحو " الزردة " ، فاستنفد كل فرد من أفرادها في الأكل جهده ، وفك عن بطنه قيده ، وأطلق في الماعون جنده ، حتى تجسدت الجودة عنده . فابتلعت غيظي ويأسي ، ونزعت عمامتي عن رأسي ، وتحاملت على نفسي ، حتى دخلت أول مقهى قريب ، فطلبت كأسا من حليب ، عساه يطفئ ما في النفس من لهيب . قال النادل : أتريد حليب"الجودة "(صنف من الحليب يـُنـتـَجُ بآيت إعزا بضواحي تارودانت ، شركة copag) ؟.قلت : كلا ، قد شبعت منها عند قوم عرفوا كيف يستخرجونها من اللاجودة ، كما تستخرج من اللبن الزبدة. آتني بقدر من الحريرة الناعمة ، عساها تكون محورا لمنتديات قادمة. قال : أتمزح ؟ قلت : كلا ، لكن لا داعي لأن أشرح ، وأقول ما يجوز وما لا يجوز وأفضح . لكني سأعترف ، وأقول كلمة وأنصرف :
قل لمن يطـلب جـودهْ دون أمــوال وعُــدَّهْ
واعتـراف ٍ بـجـمـيـل للذي أخـلص جـهـدَهْ:
أنت ترجو مستحـيـلا مثل من أخطأ قصـدَهْ
أنت تخطو خطو غـادٍفي طريق دون عَوْدَه
كم مُجـيـدٍ دون حـفـز ٍ بقيَ المسكينُ وحْـدَهْ!
هو يرعى النحل كـَدّاويَمُصّ ُالغـَيْرُ شهْـدَهْ
يـسْـتـوي فـيـنا مُجـدّمعَ من يُحسَـبُ ضِـدَّهْ
يـسْتـوي فـيـنا وفِــيّ مع من أخـلـفَ وعْـدَهْ
يا "حبيبا "(4)مُسْتهاماقـام يَـسْـتـنـطِـقُ سَعْدَهْ
فـأتـى الـرد سَـريـعـا وأزال الـشـكَّ عِـــنـْْدَهْ:
"كم حبيب ٍٍمات عشقا حـيـنـمـا جـاوز حَــــدَّهْ".