إليك أخي هذه الوقفات والنظرات في بعض الأحداث الرمضانية في سيرة خير البرية .. ألستَ معي أن شهر رمضان فرصةٌ سانحة لإحياء معانٍ جليلة، وقيمٍ كريمة، وفضائل عزيزة، كتلك التي نراه في إيمانيات نزول الوحي، وأخلاقيات خديجة، وتربويات بدر، وانتصارات الفتح، وغيرها، وغيرها …
وفي الشهر الفضيل؛ إن لم نجعل السيرة العطرة واقعًا حيًا في حياتنا؛ فمتى ؟
إن لم نتدارس أيام الله كيوم الفرقان ويوم الفتح، فمتى؟
لقد كانت السيرة النبوية والمغازي أيام السلف الصالح؛ علم السلاطين والملوك، فكانوا يجدون في دراستها دروةً تدريبية مخدومة في أصول الحُكم وسياسة الناس، فلما طال الأمد وقست القلوب؛ انفض جل الناس عن مدارسة السيرة، وباتت السيرة هي ملاذ الدعاة الربانيين وسلاح الخطباء المخلصين، وقليل ما هم. فعسى أن تكون هذه الوجبة الخفيفة فاتحة خير لمن أراد الأقبال على سيرة المصطفى بعد رمضان، لاسيما في هذا الزمان الذي يُسب في الرسول ويُهان، فأحرى بنا أن نتعلم سيرته، وقد تعلمها المستشرقون وفهموها بل وحفظوها، لا للعمل بها إنما لمحاربة صاحبها – صلوات الله وسلامه عليه .
نسأل الله العلي القدير أن ينفعنا بسيرته .
تَفَكْر وتعبّدْ وتَعلَّمْ
[ البداية كانت في رمضان ]
عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت :
"أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ؛ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ! قَالَ : "مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ : " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ ! قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ! فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ! فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ )…" [ البخاري : 3]..
هكذا كانت البداية :" تفكر "، وهكذا كان العمل الأول : " التحنث وهو التعبد"، وهكذا كانت الكلمة الأولى : " اقرأ " ..
وفي " مطبخ " التفكر والتعبد والقراءة، يصنع الله المصلحين على عين، ويعدهم لمهمة الدعوة والإرشاد، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، فيأدبهم في صوامع العبادة بأدبه، ويزكيهم في خلوة التفكر، ويعلمهم في حِلق القراءة ..
فما أحوج المسلم إلى ثلاث ساعات في يومه وليلته، ساعة يتفكر مختليًا بربه، وساعة يتعبد فيها بقيام، وساعة يتثقف فيها بكتاب ..
ففي التفكر تصفية للذهن، وفي العبادة تربية للنفس، وفي القراءة تثقيف للعقل. وكلها من معينات الإنسان على حياته، ومن موقيات المسلم على دينه، ومن محفزات الداعي في دعوته .
وفي كل مرة، يذهبُ فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى غار حراء، ليتزود بهذا الزاد، كان عليه أن يصعد جبلاً شاهقًا، ويسلك طريقًا وعرًا، ليلاً، مشيًا، وحيدًا، في حمَّارة القيظ، وفي صبارة البَرْد ..
من أجل ماذا ؟
من أجل أن يتفكر . من أجل أن يتحنث . من أجل أن يتعلم .
فهذه الثلاثة لم تُنل إلا بشق الأنفس، " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
أما التفكر :
فيقول الله تعالى فيه :
" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ{190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{191}.. [ آل عمران ]
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – :
" ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " [ ابن حبان 622، وصححه الألباني ]
وفي الأثر :
" لا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ "
وقيل : " فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ".
والتفكًر نور، والغَفلة ظُلْمة، والتأمل باب من أبواب السعادة، وهو مفتاح العلم، ومن ثم فهو مفتاح العمل.
والتفكر صحة للعقل، والغفلة مفسدة للفهم؛ فإن الإنسان المتفكر المتأمل أصفى الناس ذهنًا، وأرحب الناس علمًا .
وأما التعبد :
فيقول الله تعالى فيه :
" وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً " [الفرقان :64]
"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" [السجدة :16]
" كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ " [الذاريات : 17 ]
" يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا . إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا " [ المزمل : 1-6].
ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه :
" نعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ " [ البخاري 1054]
وتقول عائشة في صفة تعبده – صلى الله عليه وسلم – :
"كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ " [ البخاري 1055].
وقال رسول الله ناصحًا :
"عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم" [ الحاكم وحسنه الألباني في الإرواء 452].
وقال جعفر الخلدي: رأيت الحسن في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك العبارات، وطارت تلك الإشارات، وفنيت تلك العلوم، ودرست الرسوم، فما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في السحر.
وقال يوسف بن أسباط: إذا أخلص الرجل التعبد لله أربعين صباحاً أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة .
وقال أبو ذر – رضي الله عنه -: صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور وصوموا في شدة الحر لحر النشور.
فالتعبد، وبالأحرى قيام الليل، صحة للبدن، وقوة للروح، ووَجاء للنفس، وجُنّة للقلب، وزاد للدعاة، وملاذ للعصاة، وروضة يرتع فيها المؤمنون، فيها رَوح للمكروبين، وشفاء للمكلومين، وجلاء للمهمومين، وعطاء للمحرومين . إن قيام الليل جنة الله في الأرض !
وأما التعلم :
فيقول الله تعالى فيه:
" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ"[الزمر: 9].
ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه:
"طلب العلم فريضة على كل مسلم"[ ابن ماجه 1/81 وصححه الألباني ]
" .. و إن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" [ البيهقي، وصححه الألأباني ].
"إن الله أوحى إلي : أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، و من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة، و فضل في علم خير من فضل في عبادة، و ملاك الدين الورع" [ البيهقي، وصححه الألأباني ]
"ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع حتى يرجع" [ البيهقي، وصححه الألباني ]
"من علم علماً، فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء" [ ابن ماجه، وحسنه الألباني]
"إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه…" " [ ابن ماجه، وحسنه الألباني]
وعن صفوان بن عسال المرادي – رضي الله عنه – قال:
أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر فقلت له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم .
فقال: " مرحبًا بطالب العلم .. إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب" [ ابن ماجه، وحسنه الألباني]
وعن أبي أمامة قال: ذُكر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلان : أحدهما عابد والآخر عالم.. فقال – عليه أفضل الصلاة والسلام – : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ".. ثم قال – رسول الله صلى الله عليه وسلم -"إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" [ الترمذي، وحسنه الألباني]
وكان أبو حنيفة رحمه الله إذا أخذته لذة المسائل ( في طلب العلم ) يقول: أين الملوك من لذة ما نحن فيه؟ لو فطنوا لقاتلونا عليها.
وقيل: من خلا بالعلم لم توحشه الخلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته السلوة.
وقيل لابن المبارك: من تجالس؟ فقال: أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم-، إني أنظر في كتب آثارهم وأخبارهم.
ولذلك قال الصولي:
إن الكتابة والآداب قد جمعت … بيني وبينك يا زين الورى نسبًا
وقال المتنبي :
أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرْجُ سابحٍ … وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ
وقال سقراط :
من لم يصبر على تعلم العلم وتعبه، صبر على شقاء الجهل.
والحمد لله الذي جعل تعلم العلم حسنة من الحسنات، وطلبه عبادة من العبادات، وبذله قربة من القربات، وجعل العلم نبراسًا لبناء الأمم والحضارات، ومنارة لتقدم الصناعات والمشروعات، وجعل العلم أفضل أنيس في الوحشة، وأحسن رفيق في الغربة، ووسيلة لاستنزال البركة، ودفع الكربة، وجلب الأحبة، وإفادة الصحبة، والعلم في الإسلام دين، ومن لا علم له لا دين له !
وأخيرًا أوصيك بهذه الثلاثية :
الأولى : رحلة قمرية دورية : تمارس فيها عبادة التفكر، التفكر في خلق الكون والنفس، التفكر في أحوال التاريخ وسننه، والموت وعظمته، والقبر وظلمته، واليوم الآخر وشدته.
والثانية : صلاة بليل: عليك بقيام الليل والتزود من النوافل، عليك أن تنقذ نفسك بكثرة السجود.
والثالثة: كتاب تقرأه : اقرأ . اقرأ . اقرأ ! في القرآن وعلومه، في الزهد والرقائق، في السير والمغازي، في التاريخ والتراجم، في الحديث والعقائد، في الفقه وأصوله، في الأدب واللغة، في علم النفس والصحة، في السياسة والاقتصاد، في التخطيط والتنمية ….كون مكتبتك، ورتب قرائتك، واستعن بشيخ يعلمك ويوجه، فلا تترك نفسك للكتب دون مرشد، فالكتب تصنع الحفّاظ، ولا تصنع الفقهاء .
فإذا فقهت هذه الثلاثية المحمدية، فلتجعل شعارك دومًا – مع نفسك محاسبًا – في ليلك ويومك: هل تفكرتُ ؟ هل تعبدتُ ؟ هل تعلمتُ ؟
استغفر الله