سهام بنت سليمان السيف
في لحظة يأس سوداء عشتها بكل آلامها وتفاصيلها..لحظة..كانت الأقسى في حياتي..بل الأوجع والأكثر ألماً..كنت أحاول كثيراً أن أطردها..أن أبعدها..ولكن كانت تفرض نفسها على واقعي دوماً..كنت أعلم علماً يقيناً ما الذي سأجنيه إذا ما نجحت في أن تفرض نفسها و تلون جزء من حياتي بلونها..فكنت معها في عراك..حتى كان ما خشيت!!فصارت لها الغلبة واستطاعت في فترة ضعف مني أن تفرض نفسها على واقعي!!و بدأ الصراع الحقيقي!!!!
إن الصراع بين الحق و الباطل صراع أزلي ابتدأ منذ أن أشرقت الدنيا كلها بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم و بدينه الجديد الذي أخرج الناس من أعتم ظلمات ..ظلمات الكفر و الجاهلية..إلى أوضح نور..نور الإيمان و الاستقامة..ذلك النور الذي أشرقت به قلوب الصحابة..قلوب كانت بحاجة ماسة إلى من ينقذها من همجية الجاهلية و ضلالها..إلى من يحييها بعد موتها!!فحيت بنور الاسلام..و علت و سمت بالإنقياد إلى تعاليمه و الانتماء إلى شريعته.
ومع بداية تلك الحياة الجديدة..كان لابد من الخضوع إلى مشيئة الله الكونية و التي وضعت أساساتها منذ منبع الوحي الأصيل حينما قال الله تعالى:(إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء) فوضعت تلك الآية و غيرها دعامة من دعائم العقيدة..دعامة كانت الأقسى على القلوب المضيئة التي ولدت قريباً..فبدأ ألصراع!!!
فهذا يترك طاعة أمه لضلالها..يصارع في داخله بين طاعة أمه التي سعت كل حياته في تربيته و أحسنت إليه كل إحسان و بين طاعة رب عظيم كان له الفضل الأكبر في أن رزقه تلك الأم ويسر له ذلك الإحسان..فوعت القلوب قبل العقول سعة رحمة الله و فضله و أنه سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين قال تعالى: ( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون*ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)..فكانت النتيجة مثمرة كبدايتها..انتماء كامل لدين رضت به النفس و فرت إليه..فرغم الصعوبات والعقبات توجهت تلك القلوب و رضخت لذلك الكيان الإسلامي السامي فاكتست بثوب العزة بعد ذلة عاشتها سنوات..
كان الإب يختار دينه على زوجته و بنيه الكفار لأنه قرأ قوله:( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ{35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )فكان كل شيء يهون لديه أمام رضى من خلق ذلك اليوم ووعد به..
كان الصاحب يختار دينه على أصحابه و أخلائه المشركين لأنه قرأ قوله تعالى:(الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)..إلى غير ذلك من تضحيات لاتسعها كلماتي..
واستمر الصراع بين دعاة الحق والهدى و دعاة الضلال والهوى..و الحكمة في ذلك واضحة كل الوضوح..فلم تكن البداية منذ تلك المرحلة فقط..بل كانت تكملة لصراع أزلي بزغ منذ أن خلق الله آدم قال تعالى:( وقلنا لآدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغداً حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين*فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين)..و بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم بدأت مسيرة أخرى في الصراع بين أولياء الله و أولياء الشيطان!!!!
ولعل البعض يتسائل..لماذا لم يخلق الله العالم أجمع على دين الحق؟؟فلا يكون هناك صراع و لا حروب و عراك!! فالحكمة في ذلك- كما سطرت آنفاً- واضحة..و المولى أعلم و أحكم.. قال تعالى: ( و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات)..فلو كان العالم كله على دين واحد لما عُرِف المحب لدينه المجاهد في سبيله! و لما عُرِفت القلوب الأبية التي تضحي بكل شيء في سبيل دينها و عقيدتها..بل أشبعت بتلك الحكمة غرائز النفس البشرية و فطرتها الإنسانية التي جمعت بين الحب و الكرة..فصرفت جانب الحب إلى خالقها و المحسن إليها و من والاه..و صرفت جانب الكره إلى الشيطان وكل من والاه..
إنها مشاعر لا توصف..تلك التي تسكن القلب عندما يدخله نور الإيمان و يسقيه بماء الحياة الإيمانية..حياة لا يشعر بها إلا المؤمن الصادق في إقباله على ربه..يشعر بها كلما فعل طاعة تقربه إليه..يشعر بها كلما ترك معصية لا لشيء إلا لوجهه..سبحانه..يشعر بها كلما أحسن و عفى و صفح من أجله..كلما كظم غيظا أو ترك ظلماً أو ترفع عن مكروه لرضاه وحده.. وإن استاء كل من في الكون و إن سخط من سخط..أليس ربه راض..فهو برضاه يرضى..و كأن ديدنه قول الشاعر:
وليت الذي بيني و بينك عامر *** و بيني بين العالمين خراب
إذا ما صح منك الود فالكل هين *** و كل الذي فوق التراب تراب
وبذلك تكون حياته كلها لله..و أنفاسه كلها ملكاً له..يبذل الغالي و النفيس في سبيل إرضائه..وقد تعرض له بعض العوارض و الفتن..فيصبر و يحتسب ويلتجأ إلى من بيده رفعها عنه..لأنه قد تيقن بأن من ترك الراحة وجد الراحة..و أن الإنسان ممتحن و مبتلى و الصبر هو طوق النجاة..و لا نجاح في امتحان الدنيا بدونه..فيتصبر في أدق لحظات حياته المريرة مع أن قلبه قادر على الجزع و التسخط ..و كلما زينت له نفسه ذلك ترائت أمامه جنات عدن و الفردوس الأعلى..فيحدث نفسه قائلاً..أيا نفس اصبري فالموعد الجنة..لأنه جرب حلاوة الإيمان و مرارة الضلال فاختار الأجود و الأسمى..فلولا أن عرف طعم المرارة لما تلذذ بطعم الحلاوة..و لولا معرفته قسوة الحزن لما تلذذ بطعم السعادة..و لولا تجربته وحشة المعصية لما تلذذ بحلاوة الطاعة..فكانت المشيئة السماوية معالجة لطبيعة النفس البشرية و الخالق وحده بمن خلق أعلم!!!
و في بعض الأحيان تزل تلك النفس المؤمنة فتضعف..و لا يكون ذلك إلا بعد ان تبتعد و لو قليلاً عن منهل تلك القوة..و لكن ما تلبث إلا أن تعود..مستغفرة تائبة ترجو رحمة ربها الغفور الرحيم الذي قال: ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً).. فتعود أقوى مما كانت لأنها استشعرت معنى أن تفقد تلك اللذة الإيمانية و لو للحظات!!!
و المؤمن بهذه الحياة الإيمانية غريب في نفسه..غريب بين أهله و إخوانه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن الإسلام بدأ غريباً و سيعود غريباً فطوبى للغرباء،قال: و من الغرباء؟ قال: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)حديث حسن..و كلما زاد ذلك الإيمان زادت درجة الغربة..حتى يجد المؤمن نفسه في عالم آخر..فهو مع الناس بجسده و في ذلك العالم بقلبه..قلب متعلق بربه..يراقبه بنور إيمانه.. و يلجأ إليه مع كل نفس من أنفاسه..يفر إليه كلما ضعف إيمانه..فإن سبح بلسانه فالقلب ساكن لعظمته..و إن ترك شيئاً لوجهه فالوجد سابح بلذة طاعته.. و إن عمل صالحاً فالفؤاد راضخ لأمره و نهيه في كل حب و اطمئنان.
و هو بذلك في حصن ربه..يحميه بفراره إليه ممن يتربص به و يكييد له..يقيه بطاعته من كل ما يعرض له من فتن في دينه و إيمانه..يحميه أولاً من شر نفسه و من شر مخلوقاته..فهو بذلك قد احتمى بربه بعد أن اكتسب بقربه منه مصلاً ذاتياً يصرف عنه كل مايعرض لدينه أو يهزه..و لم يأت ذلك المصل إلا بعد أن أيقن أنه لا حول و لا قوة له إلا بربه..فهو الضعيف بنفسه القوي بربه..و هو الذليل بذاته العزيز بدينه..و هو بذلك في أمس الحاجة إلى ربه لينصره و يثبِته أمام فتن الدنيا و ابتلائاتها..فإن فتن هذا الزمان قد تشربت ماتشربت من القلوب فسكنتها..فلم تعد تفرق بين الحق و الباطل..قال حذيفة: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك!!إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق و الباطل.
ولم يكن ذلك إلا بعد أن ابتعدت القلوب عن منهل قوتها و عزتها..وانشغلت بدنياها الزائلة الفانية..فنزلت همتها إلى التراب بعد أن كانت تحلق في السماء..و لكن في خضم نيران الفتنة المترامية و شعاراتها المتصاعدة تبقى فئة صامدة ثابتة تمثلت في حديث النبي صلى الله عليه و سلم:(يأتي عليكم زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)..تلك الفئة عانت و مازالت تعاني ألم الجمر و حرقته..ومع ذلك صمدت و ثبتت..فكلما سولت لها أنفسها أن ترمي ذلك الجمر تذكرت حرقة الحياة ومرارتها بدونه!!فزادها ذلك ثباتاً و صموداً..فهاهي ترى تلك الجراح الغامرة في قبضتها و لكن تأبى إلا و الثبات,, إلا و الانتصار!!فالإنتصار على النفس هو الانتصار الحقيقي لتلك القلوب التي أشربت معين الحياة الطيبة بالقرب من الله!!قال تعالى(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) إنها مشاعر إيمانية من نوع فريد..لا يطيق القلم تسطيرها..و لا تستطيع الألسنة و صفها..إنها مشاعر القوة و العزة في وقت الضعف و الذلة..مزيج غريب يناسب تلك الغربة و يحاكيها..غربة تستحق المعايشة و التجربة..فلنسمو بأنفسنا معها متسلحين بقوله تعالى: ( معي ربي سيهدين)..
و نهاية المطاف الكل يعرفها.. نعيم دائم بعد عناء السفر الطويل.. وراحة أبدية مع أول قدم توضع في جنات عدن..
في هذه اللحظة توضع نقطة النهاية..نهاية الصبر و التحمل.. نهاية الصراع و الجهاد..نهاية لها مصيران لا ثالث لهما..إماسعادة أبدية..و إما شقاء دائم..فلنكن من أبطال السعادة الأبدية..سعادة لا شقاء بعدها أبدا!!!!!