خُـلِق الإنسـان في كبـد 2024.

(الإنسان في كبد)

حقيقة قرآنيّة و واقع بشري .. إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها ، منذ بدأ يخلّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت و مفارقة الحياة..هكذا قدّر الخالق و أخبر (( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ )) البلد : 4

إن الخلية الأولى لا تستقرّ في الرحم حتى تبدأ في الكبد و الكدح و النصب ليتوفر لنفسها – و بإذن ربّها – الظروف الملائمة للحياة و ما تزال كذلك حتّى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض حتى إلى جانب الأمّ ما تذوق ، و ما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضُغط و دُفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم ، بل ربما اختنق بعض الأجنّة فانتهت حياته بنصب الولادة و اختناق المولود .

وحين يخرج الجنين للحياة يبدأ الجهد الأشقّ ، حيث يتنفس هواءً لا عهد له به ، و يفتح رئته لأول مرّة ليشهق و يزفر و يستهل المولود صارخا صرخة النزول الأول في الحياة الجديدة .. و تبدأ دورة هضمية و دموية في العمل على غير عادة و يعاني المولود الجديد من كبد إخراج الفضلات حتّى تُرُوِّض أمعاءه على هذا العمل الجديد .. و في هذه المرحلة يكثر الصراخ و العويل حتى و إن قلّب الجنين ذات اليمين و ذات الشمال .

وكل خطوة بعد ذلك فيها كبد .. فهو يعاني ما يعاني حين يهمّ بالحبو .. و أشدّ من ذلك معاناة حين يستعدّ للوقوف و المشي .. فهو خائف وجل و هو يقوم و يسقط و يبكي أكثر مما يضحك .. و عند بروز الأسنان كبد .. هذا فضلا عن كبد الأمراض المعترضة و الآفات المصاحبة للنشأة .

و يستمرّ الجهد و الكفاح و النصب والكبد في مسيرة الإنسان فهو يكابد حين يتعلم و يكابد حين يفكّر .. و في كل تجربة جديدة له فيها كبد و نصب .

ثم يكبر و يشتدّ عوده و تبدأ رحلة أخرى من المشاق والكبد، و لئن اختلفت الطرق و تنوّعت المشاق فالكلّ في كبد . هذا يكدح بعضلاته ، و هذا يكدح بفكره ، والفرق هذا يكدح و يبيع نفسه ليعتقها و آخر ليوبقها. هذا يكدح في سبيل الله و ذاك يكدح في سبيل شهوة و نزوة ، و صدق الله (( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى )) الليل : 4

لا يفارق الكبدُ الإنسانَ في أطوار حياته كلها .. كبد و كدح في مرحلة الشباب .. و كبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم .. إنه ( الكدح ) للغنيّ والفقير و الذكر و الأنثى و السيّد و المسود .. وكلّ يعايش نوعا من الكبد. فالفقير الذي يكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش أو شدة الحوز أو همّ الدين وغلبته و قهر الرجال و مطاردتهم قد لا يظنّ أن غيره في كبد . بينما ترى الغنيّ يكابد في تجارته و يفكّر في مكاسبه و خسائره .. و ربما نام الفقير و هو يقظان و أكل الفقير أو نكح أكثر من الغنيّ ..

إنه الكبد لا يسلم منه الزعماء والعظماء وإن كانوا في أبراج عاجيه و قصور و خدم و حشم. فا للمسؤوليّة كبدها .. و للزعامة و الرئاسة ضريبتها..وللأمانات و المسؤوليّة حمالتها.

و الكبد لا يعفى منه العلماء و إن وصلوا إلى مراتب عليّة في العلم و المعرفة..و هل حصلوا تلك العلوم و حازوا تلك المعارف إلّا على جسور من التعب و الكبد و السهر ؟

إن نصب العالم كامن في مسؤولياته .. فحمل العلم و أداؤه و إبلاغه كلّ ذلك فيه كبد و نصب .. و الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب و زكاة العلم و خشية العلماء لربّهم كل ذلك لا يتأتّى دون نصب و كبد و جدّ و مجاهدة .

أين من يسلم من الكبد و إن تفاوت أنواع الكبد؟ لا إله إلا الله قدّر أن يعمّر الكون بالكبد ، و شاء أن يقوم سوق الحياة على النصب (( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ )) الانشقاق : 6

لا يكفي أن نعلم كبد الحياة ، و شمولها لبني الإنسان، و لكن المهمّ كيف نتعامل مع هذا الكبد؟ و كيف نستفيد من هذا الكبد ، و ما نهاية الكبد و ثمرته ؟ و كيف نخفّف من مكابد الحياة و مشاقها ؟

إن المسلم يختلف عن غيره في نوع الكبد و غايته..فهو مأجور على نصبه و همّه و غمّه ما دام يعبد الله و يخشاه ؟ فما يصيبه من نصب و لا وصب ولا همّ و لا غمّ و لا حزن، حتّى الشوكة يشاكها إلّا كفر الله بها من خطاياه .

والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات، إنه يكدح و هو مستيقن بلقاء ربّه ، مطمئنّ أنه سيجازي على جهده و عمله .. و من هنا فهو يستحسن من المكابد ما يرفع درجاته ، و يتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء . أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة . و لكن نصبه يستمرّ بعد الممات ، فالنهاية مؤلمة و الشقاء مستمرّ و لعذاب الآخرة أشقّ .

المسلم يستعين على النصب بالصبر و الصلاة و حسبك بهما معينا و الله يقول : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) البقرة : 153 ومساكين هم الذين يجزعون ولا يصبرون

(( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ )) الماعون : 4-5

وغير المسلم يتضجر و يقلق ، ثم يعود للقلق و النصب إن لم تقتل نفسه أو يقتله النصب و القلق (( وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ )) الحج : 18

ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد ، فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم، سعيهم شتى و أجورهم وأوزارهم مختلفة، و فرق بين من ينصب ليرتفع درجات و بين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانا مبينا .

والاستغفار يخفّف الكبد ويعين على مشاقّ الحياة ويفتح بابا للرزق، وفي الحديث : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا و من كلّ ضيق مخرجا و رزق من حيث لا يحتسب ))

(( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا )) نوح : 10-12

و مما يخفف الكبد و القلق أن يتصوّر المسلم مهما بلغ به من كبد الحياة و مشاقها أن فيه من هو أشدّ منه قلقاو ضيقا، ومهما بلغ في حصول المعالي و المجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبقه و فُضِّل عليه ، فهذا يخفّف من آلامه الدنيويّة و هذا يزيد في سعيه للآخرة .

تحتاج الحياة إلى جدّ و حزم و عزم و صدق ، و تحتاج مع ذلك إلى أناة و رفق و عدم التعجل و طموحات و آمال و فأل حسن – سيما حين تشتبه الأمور ، و تدلهم الخطوب و تنتشر الفتن ، و حتّى لا يقع الإنسان ضحية للهوى أو الاستعجال أو العجز و الكسل يحتاج إلى هذه الموازنات كلها .. ولا يستغني عن دعاء ربّه و توفيقه له و عونه ، وإذا لم يكن عليه عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده ..

ولابد من العفو و الصفح والمسامحة و التجاوز . فالخطأ وارد و المسامحة خلق فاضل ، والصفح والعفو من أخلاق العظماء . ولابد أن يحصل الخطأ منك أو عليك، و ربما نالك من خطأ الأقربين ما يحتاج منك إلى جميل العفو و كريم الصفح و في التنزيل (( وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) التغابن: 14

منقول

خليجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.